عرب ومستشرقون وخرافيون

10 يونيو 2015
تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية
+ الخط -

من المضحك أن بعض المثقفين العرب، المغاربةُ منهم بالأخص، والإيرانيون وغيرهم، حينما يستعيدون مقاطع للعلامة ابن خلدون بوصفها شهادة ذم يفترض بها أن تقرّع من يُسمّون اليوم أنفسهم عرباً على بداوتهم وتوحشهم المتأصل. هؤلاء العباقرة يتعاملون مع مصطلح العرب كما لو كان يحمل المعنى نفسه لدى زكي الأرسوزي وابن خلدون.

على غرار الجميع في زمانه وحتى عهد قريب، استعمل ابن خلدون هذا المصطلح وفق معنيين متمايزين ومتداخلين. وفق المعنى الأول الذي كان شائعاً قبل الإسلام واستمر كذلك حتى فترة متقدمة من القرن التاسع العشر، العرب هم الأعراب، أي البدو.

وفق المعنى الثاني المأخوذ عن الرواية التراثية، العرب هم الأفراد المُتحدّرون من القبائل العائد نسبها إلى إسماعيل وقحطان والتي قطنت شبه الجزيرة العربية ونطقت بالعربية قبل الإسلام (راجع هنري لورنس، "شرقيات 3"، باب "اختراع العرب").

يَعتبر المؤرخون الغربيون المعاصرون أن هذه القبائل هي خرافة اخترعها العصر العباسي، فالفاتحون القادمون من شبه الجزيرة بحسبهم لم ينطقوا بالعربية القرآنية ولم يُسمّوا أنفسهم عرباً ولم يكونوا عشائر أو بدواً أميين، بل ورثة حضارات عريقة ابتلعها التصحّر المتمادي (انظر "بدايات الإسلام.." لفرونسواز ميشو، الباب الثاني).

وبحسب هؤلاء المؤرخين، كان للخرافة وظيفة مزدوجة، سياسية ولاهوتية. على الصعيد السياسي، نسبت الأرستقراطيات العباسية نفسها إلى هذه القبائل لشَرعَنة سلطتها، وحذت حذوها لاحقاً الأرستقراطيات في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية.

أما على الصعيد اللاهوتي، فلدينا هنا أمّة إبراهيمية احتفظت بعذريّتها البدوية طيلة الزمن الجاهلي المديد الذي يربط الزمن التوراتي بالزمن الإسلامي، كما حفظت لغتها الإعجازية صافيةً كما ورثتها عن الزمن التوراتي، إلى أن نزل عليها الوحي وخرجت من رحمها "خير أمّة أخرجت للناس".

في النتيجة، وحين لا يقصد البدو أو الأعراب بكلامه، فإن ابن خلدون إنما يتكلّم عن عرب خرافيين لا علاقة لهم بالناطقين باللّهجات العربية المختلفة الذين صاروا اليوم يطلقون على أنفسهم اسم العرب.

من جهة أخرى، يفوت المثقفين الوارد ذكرهم أعلاه أن الله لم يُنعم على ابن خلدون بالتقدّمية كما أنعم عليهم، فهذا الأخير كان مؤمناً بالقيم الأرستقراطية الرائجة في زمانه والتي تعلي من شأن الحسب والنسب الصافي.

هو لا يحتقر البدو، بل يعتبر أنهم يُمثلون الأصل والأصالة والعصبية في حالتها الخام (والعصبية مبدأ دينامي مُحرّك للتاريخ في فلسفة ابن خلدون)، في حين يحمل التحضّر في ذاته بذرة انحلال العصبية وتحللها وصولاً إلى انهيار الحضارة على ذاتها والعودة إلى الحالة البدوية.

باختصار، نقول للمثقفين المعنيين: رحمةً بالتاريخ وبمؤسّس علم التاريخ، دعوا ابن خلدون بمنأى عن ترّهاتكم!

المساهمون