مدريد - ميسون شقير
غرناطة - ناصر السهلي
القوانين الإسبانية لناحية تأمين دخل شهري لا تشبه دول الرفاهية في الشمال الأوروبي. ففيها لابد للإنسان أن يعمل ليؤمّن حياة كريمة بدل المساعدات القليلة جدا.
فعلى عكس السابق، لم يعد راتب البطالة يؤمّن مستوى معيشيا جيدا، ما يرفع نسبة المنخرطين في سوق العمل. وبعض العرب الذين جرّبوا دخل العمل يرون فيه "عيشا كريماً، لتأمين حياة لا يرث فيها الأبناء البطالة"، على ما تذكر سيدة عربية تلبي طلبات زبائنها في مساء إسباني ماطر.
ليس بغريب على المدن الإسبانية مشهد سيدة عربية تقف خلف ثلاجة في واجهة مطعمها الصغير تلبي طلبات الزبائن، يصطفون في الطابور من كل الأعراق. تنادي السيدة "أميغو كومبليت؟"، هل تريد كل شيء في لفتك؟ وهكذا بين زبون وآخر تواصل الحديث عن اتجاهها نحو دخولها سوق العمل.
حين تسأل هذه السيدة العربية، في مدينة سياحية إسبانية، مفضلة ألا يذكر اسمها "فنحن جميعاً خلق الله"، عن عملها الذي تقوم به، إلى جانب شابة قريبة لها، تجيبك إن "العمل ضرورة للحياة، في البلاد أو في الغربة، وأنت هنا (في إسبانيا) لا فرق بين سيدة ورجل في مجال العمل، المهم أن تكسب قوت يومك بعرقك وتعبك وتلكم أفضل السبل لاحترام ذاتك وفرض مكانتك في مجتمع في الأصل متوجس من عمل المرأة". في التعبير الأخير تشير هذه السيدة إلى سنوات ماضية، حيث لم يكن من المفضل بين الجالية أن تقف امرأة في مطعم لتقدم الوجبات للزبائن.
ليس بعيداً تجد مخبزاً تخدم فيه نساء وشابات من أصول عربية، يجاور مجزرة تقدم اللحم "الحلال" ويتقاسم الزوج والزوجة مهمة تسيير أمورهما. وبينما يعمل مقص "خالد" في شعر زبائنه، إسباناً وعرباً، يخبرك عن رحلة 15 سنة في الاغتراب الإسباني. يبدو وكأنه لم يتقدم فيه العمر، ولكنه يبتسم قائلاً: "أنا أقص الشعر منذ ربع قرن...".
يشرح خالد "عملت وأنا صبي في الحلاقة في المغرب منذ كنت في الثانية عشرة، هذه مهنة أعشقها، وحين هاجرت لم تكن هجرتي سوى لأقضي بضع سنوات لأؤمن فيها بعضاً من مستقبلي عائداً إلى بلدي... مرت السنوات الخمس عشرة وكأنها أمس. العمل جزء أساسي من حياة العرب هنا، فلا أحد سيلتفت إليك إن لم تعمل، وهذه بالأصل ثقافة كبرنا عليها في مجتمعاتنا الأساسية، وأية تغييرات طارئة كالعيش عالة على مساعدات، في هذه وتلك من الدول، لا تفيد الإنسان"... كأي حلاق يحب "الدردشة" يمضي خالد في استنطاق زبونه العربي القادم للعلاج في أحد المشافي الإسبانية، ويتحرك على كرسي متحرك عن تكاليف العلاج، ليتبين أن "الدولة (دولة المريض الشاب العربي) هي التي تتكفل بالعلاج".
في مثل هذه الأجواء المفعمة بالبحث عن عمل، باعتبار أن "الأوراق"، كناية عن الإقامة القانونية، لن تأتي دون عمل لمدة لا تقل عن 3 سنوات بشكل نظامي، يمضي بعض القادمين الجدد إلى إسبانيا، ومنهم اللاجئون السوريون وغيرهم ممن انقطعت بهم السبل.
بالرغم من صعوبات واقع اللاجئين من العرب إلا أنهم في طور "محاولات التأقلم في سوق العمل"، على ما يذكر "مستشار العمل" عبد السلام بريكي، في مقاطعة مالقا بعيداً عن العاصمة مدريد بخمس ساعات تقريباً.
علاقة قديمة
مكانة الجالية العربية في إسبانيا في سوق العمل، بعيداً بالطبع عن استثمارات عقارية، تبقى ماربيا في قمة المفضل لغير المقيمين، ليست بجديدة. فليس بغريب أن تجد فندقاً سياحياً في الأندلس أو برشلونة يملكه مهاجر فلسطيني، أو مطاعم فاخرة في فنادق معروفة لمهاجرين لبنانيين. لكن أية مقارنة بين الوجود المغربي وباقي الجنسيات يبقى دائماً للفئة الأخيرة، فحتى في المناطق الريفية تجد لهم متاجرهم وأعمالهم، بالإضافة إلى عياداتهم والمراكز العلاجية الخاصة.
يذكر العرب في إسبانيا قصة عبد السلام برادة، المهاجر الأقدم منذ بداية القرن المنصرم. فهو الذي افتتح عصر تعامل الإسبان مع العرب في السوق. فالرجل بدأ في إشبيلية بافتتاح محل لصناعات تقليدية مغربية، وتميز في روايات الإسبان والعرب أن محيطه الإسباني افتتن به "لجديته وأخلاقه العالية"، ما جعله صاحب شعبية غير منسية حتى يومنا، إذ تزوج الرجل من فتاة إشبيلية لعائلة عريقة في مدينة سيدونيا.
في الفترة التالية لعام 1912، حيث توافد إلى جامعات إسبانيا شبان مغاربة، بينهم محمد عبد الكريم الخطابي، عجت سوق العمل الإسباني بالعرب. فإلى جانب التجارة اقتحم هؤلاء العمل في البناء على الطراز الأندلسي، ولم تكن مناجم إسبانيا تخلو منهم، بل حتى أن بعض الأقدمين انخرط في الحرب الأهلية إثر حصوله على الجنسية في ثلاثينيات القرن الماضي. ومع حضور جنود مغاربة إلى إسبانيا في تلك المرحلة فإنه ليس من النادر أبداً أن تجد عوائل إسبانية تحمل دماء عربية بفعل التزاوج.
الهجرة السورية على سبيل المثال ليست حديثة، مع اشتعال أوضاع سورية، منذ الثورة في 2011، بل هي هجرة قديمة. ففي فترة اقتحام حماة وتدميرها في بداية الثمانينيات اضطر كثيرون إلى الهجرة ما جعل نسبتهم الأكبر في موجة تلك الهجرة التي شهدتها إسبانيا، وخصوصاً بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ومن بين حوالى 6 ملايين من أصل مهاجر، ووفقاً لتقديرات الإسبان أنفسهم، فإن العرب في إسبانيا يحتلون أعلى مراكز النشاط المهني وانخراط جاليتهم في سوق العمل.
يبدو جلياً، من الحديث مع العرب المقيمين في إسبانيا أن اختلاف الظروف بين واقعها، من حيث انخفاض، وأحياناً كثيرة انتهاء، المساعدات الاجتماعية والضمان الصحي المجاني، أن العمل أساسي لتأمين حياة كريمة للأسر التي عانت أيضاً كثيراً بعد الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا منذ سنوات.