عرب "مثليون"

21 يوليو 2015
+ الخط -
أنا ابن شوارع وأزقة، ولا أستسيغ كثيراً تجميل المصطلحات القميئة، ولا يعنيني كثيراً أن أضفي عليها "رشة سكر"، كي تتقبلها الألسن النظيفة، ذلك أن هذه المصطلحات نبتت في هجير الأرصفة، وابتكرها باعة متجولون وفقراء وتعساء، وكائنات كانت تقيس المسافة بين الفقر والجوع، بأظافرها غير المقلمة، وراكمتها معاناة أسلاف وأحفاد، حتى غدت قاموساً لا ينبغي العبث به من السادة الدارسين في مراكز الأبحاث والجامعات.
لم ألتزم شخصياً بمثل هذه المصطلحات، خصوصاً الذي شاع أخيراً، وأعني به (المثليون)، وكنت دوماً أرجح عليه مصطلح الشوارع، لأنني أجده أكثر تعبيراً عن حالة الشذوذ الجنسي، فضلاً عن أنه مصطلح شارعيّ بامتياز، خصوصاً وأنه يشفي الغليل أحياناً، حتى لو لم ينطبق على الشخص المنكوب به.
كنت كذلك، إلى فترة قريبة، حين انقلبت معاييري كلياً بشأن هذا المصطلح، حصراً، وقد حدث ذلك، أخيراً، بعد أن قامت قيامة الإعلام الأردني ضد السفيرة الأميركية في عمان، التي اتهمت برعاية مؤتمر للمثليين في الأردن، وتعرضت لسيل من الانتقادات اللاذعة، ولحملة تجييش من صحف ومواقع تواصل اجتماعي، ولضغوط على الحكومة لممارسة نوع من الضغط على هذه السفيرة التي خدشت حياء الشارع، بفعلتها الشنعاء، حيث اتهمت بترويج الفسق والفجور، وإشاعة عادات غريبة على المجتمع، ولاسيما أن "الشذوذ"، تحديداً، فعل يمس الشرف وينتقص من الرجولة، وهذا ما لا يقبله المجتمع العربي، القائم على فتل الشنب واستعراض الفحولة.
تحت هذه الهجمة الإعلامية الشرسة، والضغوط التي تعرضت لها الحكومة، وجدت الأخيرة نفسها مضطرة إلى ترقيع الموقف ببيان خجول صادر عن وزارة الداخلية، يجدد التذكير بأن "المثلية" فعل شائن، يقع تحت طائلة المساءلة القانونية في قانون العقوبات الأردني.
والحال أن الحكومة الأردنية وجدت مخرجاً من هذا المأزق الدبلوماسي، على قاعدة: "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، فهي آثرت أن لا تزجّ نفسها بأزمة دبلوماسية مع سفيرة الدولة العظمى، حين تحاشت المرور على مؤتمر المثليين الذي رعته السفيرة من جهة، كما أنها استطاعت امتصاص الغضبة الإعلامية المضرية من جهة أخرى، بالتذكير بأساسيات قانون العقوبات الأردني، وهكذا عاش الذئب (السفيرة)، ولم يفنَ (الغنم).
أما لماذا استهواني المصطلح الجديد للشذوذ الجنسي، ووجدتني أستبدل المصطلح الشارعي القديم به، فتلك حكاية أخرى، فأنا باختصار وجدت في هذا المصطلح تعبيراً ملائماً لوصف حالة "المثلية" الجديدة التي تعيشها أنظمتنا العربية في الزمن الراهن.
مثلاً، كيف نصف حالة الاندغام والانسجام والانصهار "الزعاماتي" العربي الصهيوني حالياً؟ أعني كيف نصف حالة التذلل التي تدفع الأنظمة العربية إلى لعب دور الوكيل عن الكيان الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية برمتها، والإجهاز على ما تبقى من بؤر المقاومة العربية والفلسطينية، من أجل بقاء الهيمنة الإسرائيلية واستفرادها بالمنطقة؟
أيضاً، بماذا نفسر حروب الوكالة التي نخوضها نيابة عن أميركا، عبر الأحلاف التي نقيمها لتعميق التمزق العربي، وإحياء الفتن، ما ظهر منها وما بطن؟
أليست تلك هي "المثلية" بعينها؟ مثلية تشبه حبة العدس، حيث يتلاشى الفرق بين الوجه والظهر، فلا نفرق بين طائرة عربية وطائرة صهيونية، ما دام مقصوف العمر والبيت والمدرسة والشارع مواطناً عربياً كان يعتقد أن هذه الطائرات والمدافع استوردت لحمايته، أو لتحرير القدس، على أضعف تقدير، لكنه دفع حياته ثمناً لسوء تقديره.
أجدني، فعلياً، منسجماً الآن مع هذا المصطلح، الذي يصف حالة الشذوذ العربي في أقبح سوءاته، فنحن "مثليون"، نتماثل مع العدو، ونسمح له باختراقنا من أي ثقب حدودي يشاء، مع فرق أول؛ هو أننا لا نبدي احتجاجاً ولا تصدر منا أي نأمة استنكار لهذا الانتهاك "المثلي" الذي نرزح تحت وطأته، والفرق الآخر، أن "الذئب" يزداد تغولاً، أما "الغنم" فسيفنى عما قريب.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.