مقاهي اليوم تختلف عن تلك التي كانت بالأمس. لكنّ بعض العراقيين يفضّلون تلك القديمة التي ما زالت تنشط في البلاد.
في مقهى "رضا علوان" في بغداد، يجتمع الأصدقاء من مختلف الفئات، وبينهم صحافيون وأدباء. وهؤلاء يفضّلون اللقاء في ذلك المقهى الذي اشتهر أخيراً، في العاصمة العراقية، نظراً إلى الحداثة التي يعتمدها في أسلوب عمله.
الشاعر علي حسين من هؤلاء، يخبر "العربي الجديد" أنّه يفضّل المقاهي الحديثة للقاء أصدقائه من الأدباء الشباب، مشيراً إلى أنّ "المثقّفين يفضّلون الأماكن التي توفّر لهم جواً ثقافياً يتبادلون فيه معلوماتهم ويطرحون فيه أفكارهم ويناقشون قضايا الأدب والفن وما يدور في الوسط الثقافي المحلي وكذلك العربي والعالمي". وهو يرى بالتالي مقهى "رضا علوان" متنفساً جاذباً للمثقفين، مثلما هو مقهى "قهوة وكتاب" الذي يوفّر في داخله مكتبة لمن يرغب في القراءة وعقد لقاءات وندوات وحوارات في مجالات مختلفة. لكنّ حسين يشير إلى أنّه "على الرغم من الرغبة في اللقاء في مثل هذه المقاهي، فإنّنا أيضاً لا نستغني عن اللقاء في مقاهي تراثية قديمة، خصوصاً تلك التي تُعَدّ ملتقى للمثقفين. في تلك المقاهي تاريخ ثري، فهي كانت ملتقى كبار الأدباء والصحافيين وقادة المجتمع الذين لهم أثرهم المهم في مجالات مختلفة في البلاد. لذلك نعتز كثيراً بها على الرغم من بساطتها".
وتنتشر المقاهي القديمة في المدن العراقية، خصوصاً العاصمة بغداد، وهي الملتقى المفضّل للرجال وكبار السنّ وتقدّم لهم المشروبات الساخنة والباردة على حدّ سواء كذلك النارجيلة (الشيشة). وهي توفّر لمرتاديها فسحة لممارسة ألعاب مختلفة من قبيل الدومينو وطاولة الزهر والشطرنج والورق (الشدّة). وتلك المقاهي التي تنشر غالباً في الأحياء الشعبية، تبثّ الأغاني التراثية التي يطرب لها كبار السنّ. ولعلّ أشهرها في بغداد تقع في شارع الرشيد، وهو أقدم شارع في العاصمة وكان ملتقى وطريقاً يسلكه كبار قادة البلاد ومثقفوها. ومن أبرز تلك المقاهي التي تتوزّع في الشارع المذكور وفي أحياء قديمة أخرى، نذكر مقهى "أم كلثوم" ومقهى "الزهاوي" ومقهى "البرلمان" ومقهى "الشابندر" ومقهى "حسن عجمي" ومقهى البرازيلية.
عبد العزيز الراوي الذي اعتاد ارتياد المقاهي القديمة مذ كان طالباً في الثانوية العامة في ستينيات القرن الماضي، يقول لـ"العربي الجديد" إنّه ما زال، حتى اليوم، يرتاد المقاهي نفسها في شارع الرشيد. يضيف أنّ "ما جذبني إلى تلك المقاهي قبل أكثر من خمسين عاماً، اللقاءات بين كبار القامات العراقية في مجالات الأدب والفكر والصحافة، الذين رحلوا عن عالمنا اليوم. كانت أصوات هؤلاء الأشخاص ترتفع وهم يتناقشون في قضايا أدبية أو فكرية أو سياسية أو في مشروع عمل ما". ويتابع، إنّ "جوّ تلك المقاهي هو ما جذبني كذلك. فأثاثها بسيط مُستوحى من تراث البلد، وطرقها تقليدية في تقديم المشروبات، وجدرانها الداخلية تمتلئ بالصور القديمة. وكلّ ذلك يثير لديّ الشوق إلى سنوات انقضت، وتزيدني حباً وتعلقاً بوطني".
لكنّ الراوي وهو مهندس متقاعد، وعلى الرغم من شغفه بالمقاهي التراثية، فإنّه يجد "ضرورة تطوّر المقاهي لتواكب العصر". ويقول: "عصرنا غير عصر أولادنا وأحفادنا. ثمّة تطوّر سريع في الحياة، لكنّني متأكد من أنّ المقاهي القديمة لن تندثر، بل هي تتجدد. وما يفرحني هو أنّ عدداً كبيراً من الشباب يحرص على ارتياد المقاهي القديمة، وهذا دليل على أنّها لن تندثر".
ويعيد بعضهم سبب ارتيادهم المقاهي القديمة إلى أنّها "ملاذ للفقراء والعاطلين من العمل"، فهي تقدّم مشروباتها بأسعار زهيدة جداً تناسب هؤلاء، فضلاً عن أنّها تتعامل بالدَّين، بل وتُسقط الديون في أحيان كثيرة عن معوزين يعجزون عن سدادها. وهو ما يؤكده فاضل العزاوي صاحب مقهى شعبي في الكرخ في بغداد، ويعلّق لـ"العربي الجديد" قائلاً: "الرزق على الله ومن يقضي حاجة الناس يقضي الله حاجته".
يلعبون الدومينو في أحد المقاهي الشعبية (علي السعدي/ فرانس برس) |
في تسعينيات القرن الماضي، راحت بعض المقاهي تسعى إلى استقطاب الشباب من خلال توفير طاولات بلياردو، الأمر الذي يجعلها تضجّ بأصوات مرتاديها الشباب وكرات البلياردو. وهذا صخب يكرهه كبار السنّ. لكنّ التغيير الأكبر شهدته بغداد بعد الغزو الأميركي للبلاد في عام 2003، إذ بدأت تُفتَح مقاه أُنفِقت مبالغ طائلة على تجهيزها، وتقدّم الكيك والمرطبات والعصائر بطريقة جذابة، وتعتمد في صناعتها على متخصصين. وتلك المقاهي التي نجدها في المناطق الأكثر رقياً، تأتي إلى جانب فروع مقاه عالمية التي نجدها كذلك في المجمعات التجارية الكبرى وفي أحياء راقية من قبيل المنصور وزيونة والكرادة.
والمقاهي الحديثة تحت مسمّى "كوفي شوب" مستمرة في الانتشار، وهي توفّر لمرتاديها خدمات عدّة. يُذكر أنّ ثمّة نساء شابات يعملنَ في بعضها، وهذا كسر آخر لتقاليد المقاهي التي يعمل فيها الرجال حصراً.
يخبر فهد طه "العربي الجديد" أنّه يفضّل تلك المقاهي ويرتادها بصحبة أصدقائه، وأحياناً بصحبة زوجته. ويشير إلى أنّ "الجلسات فيها هادئة. وعلى الرغم من أنّ أسعار المشروبات والحلوى التي تقدّم فيها أعلى بضعفين أو ثلاثة أضعاف قياساً بأسعارها الأصلية، فإنّني أبحث مثلما يفعل كثيرون غيري عن مكان مميّز وهادئ وغير تقليدي نقضي فيه وقتاً ممتعاً".
وهذا النوع من المقاهي، يكون مرتادوه عادة من ميسوري الحال، أو من الذين يستطيعون دفع فاتورة الطلبات. فسعر النارجيلة مثلاً يصل إلى 30 ألف دينار عراقي (نحو 25 دولاراً أميركياً) بينما لا يتجاوز سعرها في المقاهي العادية 10 آلاف دينار (ثمانية دولارات)، والحال ينطبق على المشروبات والمأكولات التي تقدّم في هذه المقاهي. يُذكر أنّ تلك العالمية تقدّم لمرتاديها خدمات بسعر أغلى من المقاهي الأخرى، نظراً إلى شهرتها وما تقدّمه.