14 نوفمبر 2024
عدن بين حربين وانتصار
في حالات استثنائية، يمكن للتاريخ أن يكرر نفسه في عيون الضحايا الذين عاشوا الواقعة نفسها مرتين، وبزمنين مختلفين، يفصل بينهما عقدان، وجيل ولد في زمن الفاجعة قبل عقدين، وقضى كثيرون منهم نحبهم في الشهور المنصرمة. في عدن الحزينة، كرر التاريخ نفسه بمعاناة الناس، وتكرر كذلك المعتدي مع اختلاف المتحالف معه.
يدرك اليمنيون الذين عاصروا النهار الحزين من صيف 7 يوليو/تموز 1994 هذه الحقيقة، عندما أعلن علي عبدالله صالح انتصاره في الحرب الأهلية التي دشنها ضد الجنوبيين، واليمنيين عموماً، حرب تركت شرخاً عميقاً في اللحمة والذاكرة الوطنية، وحتى في التعايش بين اليمنيين. لم يتعاف اليمنيون حتى اليوم من آثار تلك الحرب، خصوصاً أبناء عدن، وقبل حتى أن يتمكنوا من التقاط أنفاسهم أعقاب الربيع العربي، وجدوا أنفسهم مجدداً أمام حرب جديدة من تحالف صالح وجماعة الحوثي، في مارس/آذار الماضي، أعادت إلى الأذهان مأساة حرب قديمة، لم تندمل أبداً.
بعد الانقلاب على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، لم يكتفِ الحوثيون بإشعال المحارق الوطنية على امتداد الأرض اليمنية، وذهبوا إلى التحالف مع علي عبدالله صالح، العدو القديم الذي شن عليهم ست حروب، منقلبين بتحالفهم معه على كل ما مثلته ثورة فبراير 2011 التي أمل اليمنيون أن تطوي صفحة حرب صيف 1994 سياسياً، وتمحو آثارها اجتماعياً، ويُنصف ضحاياها وتحقق مصالحة وطنية حقيقية؛ غير أن الشعور بتفوق السلاح، ونشوة نصر الحوثيين على اليمنيين في عمران وصنعاء، أعمت الجماعة عن رؤية تطلع اليمنيين ومظلوميتهم، فعمدت إلى تعزيز تحالفها مع علي عبدالله صالح، مستعينة بقوات الجيش الموالية له، للزحف على المدن اليمنية، وإخضاعها بالقوة. وبكل المعايير، كان خيار جماعة الحوثي بالزحف على مدينة عدن خطأ فادحاً على الجماعة وكل اليمنيين، وبزهو السلاح والخبرة القتالية للحوثيين، تركوا صالح يورطهم في حربه الثأرية على الثورة واليمنيين.
أملت جماعة الحوثي أن تستغل صالح، لكنه استغلها، راهنة نصرها العسكري بضعف الدولة ورخاوة القوى السياسية الأخرى؛ وحتى مع التدخل العسكري للتحالف العربي، بقيادة السعودية، في 26 مارس/آذار الماضي، دأبت الجماعة على استخدام استراتيجيتها نفسها في دفع الأمور إلى أقصاها، وسد الخيارات السياسية على كل الأطراف. لأكثر من أربعة أشهر من حرب يشنها تحالف عشر دول عربية ومقاومة مستبسلة من الداخل، تابع تحالف صالح والحوثيين حرباً شرسة لاخضاع مدن لا ترى فيهم سوى غزاة قادمين من الشمال، وحرباً أكثر جنوناً من حرب صيف 1994.
لم يستطع تحالف الحرب الأهلية السيطرة على مدينة عدن، ومن أجل هذه الغاية، مارسوا كل فظاعات الحرب، من قتل المواطنين وقصف المنازل وإحراق مصافي البترول ومنع المساعدات الغذائية من الوصول إلى المحتاجين، وتشكلت مقاومة شعبية، وإن غطت أطرافها مظلات سياسية مختلفة، اتفقت على مقاومة الاجتياح اللاإنساني لتحالف صالح والحوثيين والدفاع عن المدنيين الأبرياء.
لم يستطع تحالف الحرب إخضاع المدن لسيطرته، لتستمر حرب طويلة ومنهكة باهظة على أهالي عدن. وفي المقابل، وعلى الرغم من المساندة التي قدمتها قوات التحالف، لم تستطع المقاومة الشعبية تحقيق تقدم ملومس، في حين استماتت مليشيات الحوثي وقوات صالح في سياستها بخنق سكان المدينة، وظلت معارك الكر والفر بين الطرفين، في نقاط محددة من المدن الجنوبية. في الأسبوع الثاني من شهر يوليو/تموز الجاري، بدأ التغيير في موازين القوى يميل لصالح المقاومة الشعبية في عدن، حيث استطاعت المقاومة السيطرة على رأس عمران، وعلى الرغم من إحراق الحوثيين وقوات صالح مصافي البريقة للمرة الثانية، فإن المقاومة حققت تقدماً، بعد سيطرتها على رأس عمران، وكفاءتها في معركة تحرير عدن التي بدأت في 14 يوليو/تموز الجاري، لتسيطر بعد ذلك على العربش وجزيرة العمال ومطار عدن ومعسكر بدر وإدارة الأمن العام ومعسكر الصولبان والخط الساحلي. وتعد سيطرة المقاومة الشعبية على خور مكسر تحولاً أخيراً في ميزان القوى لصالح المقاومة، للأهمية الاستراتيجية لخور مكسر التي تربط بين شمال عدن وجنوبها، ثم سيطرتها على كريتر التي تمركزت فيه المليشيات في وقت سابق، وحاصرت مليشيات الحوثي وقوات صالح في المعلا والتواهي. وبسيطرة المقاومة على منطقني خور مكسر وكريتر وباقي المناطق، يمكن القول إن عدن تحررت بشكل كامل من سيطرة صالح والحوثيين.
تشكل التطورات الأخيرة في عدن، وسيطرة المقاومة على المنافذ البحرية والبرية والجوية نقطة تحول في مسار الحرب الدائرة منذ أشهر، فجماعة الحوثي وصالح التي خاضت حروبها في المدن اليمنية بدون بوصلة لم تهزم عسكرياً وأخلاقياً في عدن فقط، وإنما خسرت ورقة رابحة كانت تعول عليها في مسار المفاوضات. لذا، جاء ارتباك جماعة الحوثي واضحاً بعد هزيمتهم في عدن، حيث رشحت تنقاضات التصريحات المصاحبة لمعركة عدن، فبعضهم صرح أنهم، أي الحوثيين، سلموا المدينة للجنوبيين مختارين، وليس مكرهين، وأطلق آخرون نداء استغاثة لتحرير عدن التي سقطت في قبضة القاعدة وداعش. كان لانتصار المقاومة في عدن أثر كبير على أهالي المدينة، وأشعل بصيص أمل في المدن المنكوبة الأخرى التي تعيش حرب شوارع ضد جماعة الحوثي وصالح، والتي رأت في تحرير عدن خطوة في الألف ميل، لانتهاء الحرب.
سيحتم تأمين عدن أو تحريرها على الرئيس عبد ربه منصور هادي العودة إلى المدينة التي هرب منها قبل بدء الحرب، لمزاولة مهامه، ليس بعقلية المنتقم، وإنما لوقف نزيف الدم اليمني، وأن يكون رئيساً لكل اليمنيين. لكن، هل يستطع الرئيس هادي إدارة اليمن بهذه المسؤولية في ظل الحرب، وهو الذي فشل طوال الفترة الانتقالية في إدارة اليمن، وحتى في إدارة مكتبه الرئاسي؟ فالمهم بالنسبة لكثيرين من أهالي عدن، غير المعنيين بعودة هادي، أن تحرير المدينة هو بمثابة هدية عيد، ربما سيمر عليهم وهم يعيشون أهوال ما خلفته الحرب، ويتوقون بحرقة للعودة إلى منازل أضاعوا مفاتيحها، في رحلة النزوح، ومعانقة ذكرياتهم القديمة في أنقاض البيوت المدمرة، ولتفقد شرفة تركوا فيها فنجان قهوة برد من الانتظار، والبحث عن أصدقاء لهم، فرقتهم الحرب، ولم يعرفوا ماذا حل بهم، والبكاء على موتاهم وموتانا، وتبادل العزاء على ما خلفه صيف حزين آخر من دمار وموت.
بعد الانقلاب على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، لم يكتفِ الحوثيون بإشعال المحارق الوطنية على امتداد الأرض اليمنية، وذهبوا إلى التحالف مع علي عبدالله صالح، العدو القديم الذي شن عليهم ست حروب، منقلبين بتحالفهم معه على كل ما مثلته ثورة فبراير 2011 التي أمل اليمنيون أن تطوي صفحة حرب صيف 1994 سياسياً، وتمحو آثارها اجتماعياً، ويُنصف ضحاياها وتحقق مصالحة وطنية حقيقية؛ غير أن الشعور بتفوق السلاح، ونشوة نصر الحوثيين على اليمنيين في عمران وصنعاء، أعمت الجماعة عن رؤية تطلع اليمنيين ومظلوميتهم، فعمدت إلى تعزيز تحالفها مع علي عبدالله صالح، مستعينة بقوات الجيش الموالية له، للزحف على المدن اليمنية، وإخضاعها بالقوة. وبكل المعايير، كان خيار جماعة الحوثي بالزحف على مدينة عدن خطأ فادحاً على الجماعة وكل اليمنيين، وبزهو السلاح والخبرة القتالية للحوثيين، تركوا صالح يورطهم في حربه الثأرية على الثورة واليمنيين.
أملت جماعة الحوثي أن تستغل صالح، لكنه استغلها، راهنة نصرها العسكري بضعف الدولة ورخاوة القوى السياسية الأخرى؛ وحتى مع التدخل العسكري للتحالف العربي، بقيادة السعودية، في 26 مارس/آذار الماضي، دأبت الجماعة على استخدام استراتيجيتها نفسها في دفع الأمور إلى أقصاها، وسد الخيارات السياسية على كل الأطراف. لأكثر من أربعة أشهر من حرب يشنها تحالف عشر دول عربية ومقاومة مستبسلة من الداخل، تابع تحالف صالح والحوثيين حرباً شرسة لاخضاع مدن لا ترى فيهم سوى غزاة قادمين من الشمال، وحرباً أكثر جنوناً من حرب صيف 1994.
لم يستطع تحالف الحرب الأهلية السيطرة على مدينة عدن، ومن أجل هذه الغاية، مارسوا كل فظاعات الحرب، من قتل المواطنين وقصف المنازل وإحراق مصافي البترول ومنع المساعدات الغذائية من الوصول إلى المحتاجين، وتشكلت مقاومة شعبية، وإن غطت أطرافها مظلات سياسية مختلفة، اتفقت على مقاومة الاجتياح اللاإنساني لتحالف صالح والحوثيين والدفاع عن المدنيين الأبرياء.
لم يستطع تحالف الحرب إخضاع المدن لسيطرته، لتستمر حرب طويلة ومنهكة باهظة على أهالي عدن. وفي المقابل، وعلى الرغم من المساندة التي قدمتها قوات التحالف، لم تستطع المقاومة الشعبية تحقيق تقدم ملومس، في حين استماتت مليشيات الحوثي وقوات صالح في سياستها بخنق سكان المدينة، وظلت معارك الكر والفر بين الطرفين، في نقاط محددة من المدن الجنوبية. في الأسبوع الثاني من شهر يوليو/تموز الجاري، بدأ التغيير في موازين القوى يميل لصالح المقاومة الشعبية في عدن، حيث استطاعت المقاومة السيطرة على رأس عمران، وعلى الرغم من إحراق الحوثيين وقوات صالح مصافي البريقة للمرة الثانية، فإن المقاومة حققت تقدماً، بعد سيطرتها على رأس عمران، وكفاءتها في معركة تحرير عدن التي بدأت في 14 يوليو/تموز الجاري، لتسيطر بعد ذلك على العربش وجزيرة العمال ومطار عدن ومعسكر بدر وإدارة الأمن العام ومعسكر الصولبان والخط الساحلي. وتعد سيطرة المقاومة الشعبية على خور مكسر تحولاً أخيراً في ميزان القوى لصالح المقاومة، للأهمية الاستراتيجية لخور مكسر التي تربط بين شمال عدن وجنوبها، ثم سيطرتها على كريتر التي تمركزت فيه المليشيات في وقت سابق، وحاصرت مليشيات الحوثي وقوات صالح في المعلا والتواهي. وبسيطرة المقاومة على منطقني خور مكسر وكريتر وباقي المناطق، يمكن القول إن عدن تحررت بشكل كامل من سيطرة صالح والحوثيين.
تشكل التطورات الأخيرة في عدن، وسيطرة المقاومة على المنافذ البحرية والبرية والجوية نقطة تحول في مسار الحرب الدائرة منذ أشهر، فجماعة الحوثي وصالح التي خاضت حروبها في المدن اليمنية بدون بوصلة لم تهزم عسكرياً وأخلاقياً في عدن فقط، وإنما خسرت ورقة رابحة كانت تعول عليها في مسار المفاوضات. لذا، جاء ارتباك جماعة الحوثي واضحاً بعد هزيمتهم في عدن، حيث رشحت تنقاضات التصريحات المصاحبة لمعركة عدن، فبعضهم صرح أنهم، أي الحوثيين، سلموا المدينة للجنوبيين مختارين، وليس مكرهين، وأطلق آخرون نداء استغاثة لتحرير عدن التي سقطت في قبضة القاعدة وداعش. كان لانتصار المقاومة في عدن أثر كبير على أهالي المدينة، وأشعل بصيص أمل في المدن المنكوبة الأخرى التي تعيش حرب شوارع ضد جماعة الحوثي وصالح، والتي رأت في تحرير عدن خطوة في الألف ميل، لانتهاء الحرب.
سيحتم تأمين عدن أو تحريرها على الرئيس عبد ربه منصور هادي العودة إلى المدينة التي هرب منها قبل بدء الحرب، لمزاولة مهامه، ليس بعقلية المنتقم، وإنما لوقف نزيف الدم اليمني، وأن يكون رئيساً لكل اليمنيين. لكن، هل يستطع الرئيس هادي إدارة اليمن بهذه المسؤولية في ظل الحرب، وهو الذي فشل طوال الفترة الانتقالية في إدارة اليمن، وحتى في إدارة مكتبه الرئاسي؟ فالمهم بالنسبة لكثيرين من أهالي عدن، غير المعنيين بعودة هادي، أن تحرير المدينة هو بمثابة هدية عيد، ربما سيمر عليهم وهم يعيشون أهوال ما خلفته الحرب، ويتوقون بحرقة للعودة إلى منازل أضاعوا مفاتيحها، في رحلة النزوح، ومعانقة ذكرياتهم القديمة في أنقاض البيوت المدمرة، ولتفقد شرفة تركوا فيها فنجان قهوة برد من الانتظار، والبحث عن أصدقاء لهم، فرقتهم الحرب، ولم يعرفوا ماذا حل بهم، والبكاء على موتاهم وموتانا، وتبادل العزاء على ما خلفه صيف حزين آخر من دمار وموت.