عدم القابلية للنسخ
وكانت حصيلة هذه التجربة، أن دخلت تركيا ضمن الدول العشرين الكبرى في العالم G20، وأخذت في لعب دور إقليمي وعالمي بشكلٍ متزايد. هذا دفع كثير من الباحثين لدراسة هذه التجربة بتفاصيلها وتنوعاتها المختلفة. وكانت في نفس الوقت موضع إعجاب شعوب أخرى منها شعوب العالم العربي. وهذا طرح سؤال عند بعض الشعوب العربية: هل تجربة تركيا قابلة للتكرار في الوطن العربي؟
كان التحول الأبرز لدى قيادات حزب "العدالة والتنمية"، أصحاب الخلفية الإسلامية أنهم حاولوا تقديم نموذج للإسلاميين المتوافقين مع قيم الحداثة والديموقراطية. كان هذا الطرح في بداية الألفية يتمّ التبشيرُ به كثيراً، سواء لدى قطاعات من الإسلاميين من جهة، وبين الباحثين الغربيين والإكاديميين في المراكز البحثية وبين السياسيين الغربيين المهتمين بالشرق الأوسط من الجهة الأخرى.
في هذه اللحظة التاريخيّة، تلاقت مصالح الطرفين في تقديم نموذج يثبت صحة الاستنتاج الذي وصلوا إليه، من أنه يمكن تقديم نماذج من الإسلاميين متوافقين مع القيم الحداثية والديموقراطية في المجال السياسي، ومتوافق مع اقتصاد السوق والتجارة الدولية والنظام الرأسمالي العالمي في المجال الإقتصادي. وعلى أن هذا النموذج سوف يكون قابلاً للتكرار في بلاد إسلامية اخرى، خاصة أنه مع بداية التجربة، وظهور علامات على نجاحها، كان يبدو كأن الرهان في محله، وأنه يمكن إدماج الإسلاميين في الحكم بصورة تعمل على تحقيق تطورات اقتصادية وإدارية في البلاد الإسلامية، تخدم شعوبها دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث صراعات بين البلد الإسلامي والعالم الغربي تؤثر على المصالح السياسية والاقتصادية لهذا الدول في البلد الإسلامي.
حدث هذا "الاتفاق الضمني" وتحقّقت أسباب نجاحه أيضاً، فقد كان الاقتصاد الدولي في هذه الوقت في حالة جيدة استمر حتى الأزمة المالية في 2008. واستطاعت تركيا، طوال هذه الفترة، الاستفادة اقتصاديّاً من هذه الظروف الاقتصادية المواتية في بناء قاعدة صناعية وتوسيع التجارة الدولية وجذب الإستثمارات الأجنبية.
وفي نفس الوقت، قامت بإجراء حزمة من الإصلاحات الحكومية والسياسية والدستورية من أجل تحقيق الشروط اللازمة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن، بعد الربيع العربي، تغير موقف تركيا السياسي الخارجي وتغيرت معه مواقف العالم الغربي أيضاً. فمواقف تركيا السياسية والإقليمية لم تعد تحظى بنفس الدرجة من القبول بين الأطراف الغربية المختلفة، وفي نفس الوقت انخفضت فرصة تركيا للانضمام للاتحاد الأوربي. ومع تتابع الأحداث، بدا واضحاً أن المواقف التركية لن تكون متوافقة مع مواقف الولايات المتحدة والدول الأوربية بصورة كبيرة. وأن الدور التركي لم يعد يُنظَر إليه بنفس الصورة الإيجابية التي كان ينظر إليه بها في البداية.
وترتّب على ذلك أن أي تجربة مستقبلية في الوطن العربي، سيكون الإسلاميون طرفاً أساسياً بها لن تحظى غالباً بنفس الدعم والمسانده الدولية التى حظيت بها التجربة التركية في بدايتها.
وبغض النظر عن وصول الإسلاميين للحكم مرة أخرى في العالم العربي من عدمه، فمن حيث المبدأ، فإن تجارب الدول غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ كما قد يظن البعض. وليس معنى وجود نفس المشكلة في بلاد متعددة أنه سينجح التعامل معها بنفس السياسة أو الحلول.
فكما بدا واضحاً من تفاصيل ما حدث في بداية الألفية في تركيا، فإن الظروف والسياقات التى تبدأ فيها تجارب الدول والتدرج في الصعود فيها يختلف من زمان إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى. والقرارات التى يتخذها الفاعلون الأساسيون في المشهد، تتباين باختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلد. وتتأثر أيضاً بالخلفيات الثقافية والمنطلقات الفكرية التي تحكم سلوك وقرارات هؤلاء الأفراد.
لذلك، فإن دراسة تجارب الدول الأخرى، خاصة من خلال المنظور المقارن، لا يكون من أجل محاولة تقليدها أو استنساخها كما قد يتصور البعض. ولكن من أجل فهم سياقاتها والعوامل التي ساعدت في نجاحها أو فشلها واستخراج الدروس التي يمكن معرفتها من هذه التجربة. لكن مع هذا، فعند تطبيق هذه المعارف وهذه الدروس في بلد آخر وفي سياق مختلف، فإن هذا لا يعني بالضرورة نجاح التجربة الجديدة، بقدر ما يعني أنها أصبحت لديها قدرات معرفية أكبر على مواجه الصعوبات المتشابهة، وتذليل العقبات المتكررة في التجارب المختلفة. ويظل عليها في النهاية أن تبحث عن حلول وأفكار أكثر نضجاً، تناسب سياقها المحلي الذي تعمل فيه، وأكثر ملائمة لظروفها غير القابلة للتكرار. فلا يمكن استنساخ نموذج الثورة الإيرانية في أي بلد عربي. كما لا يمكن استنساخ النجاح الاقتصادي التركي في أي بلد عربي آخر، لكن يمكن التعلم من هذه التجارب والاستفادة من دروسها.
إن النظر كثيراً إلى الماضي، القريب أو البعيد، ومحاولة إعادته مرة أخرى لن يجدي في مواجهة التحديات والمصاعب التى نواجهها حالياً في الوطن العربي. والحلول والسياسات التي ثبت نجاحها في الماضي القريب، غالبًا لن تكون صالحة في المستقبل القريب، لأن السياقات أصبحت تتغير بسرعة كبيرة، والمستجدات تزيد يوماً بعد يوم. وإذا كانت أفكار قد نجحت في الماضي القريب في مواجهة صعوبات وتحديات في بلداننا العربية، أو في بلاد أخرى قريبة مثل تركيا، فإن هذه الأفكار ستصبح موضع تساؤل كبير، إن كانت لا تزال قادرة على الاستمرار في حل هذه المصاعب في المستقبل.
ورغم أننا نحتاج بشدة إلى دراسة تجارب الدول التي حققت نجاحات في مجالات معينة كالبرازيل والهند والصين وغيرها، وليس الاقتصار فقط على التجربة التركية من أجل استخلاص الدروس، ومعرفة عوامل النجاح، لأن هذا قد يقوّي من قدراتنا على مواجهة مشكلاتنا الحالية. إلا أن ما سيساعدنا فعليّاً على الخروج من هذه المشاكل ومواجهة هذه الصعاب، هي أفكار وسياسات جديدة تنمو وتثمر داخل سياقاتها وبيئتها فتكون أكثر قدرة على البقاء والاستمرار، وتساهم بفاعلية في تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية.