عتمة المسرح السوداني

05 مايو 2015
مسرحية "النظام يريد"
+ الخط -
صورة قاتمة تحكي واقعًا مريرًا لفصول انهيار المسرح في السودان، جسّده تراجع طال أمرين أساسين: الإنتاج المسرحي وجمهور المسرح. وارتفعت أصوات كثيرة محذّرة من اختفاء المسرح في السودان، في حال استمرّ الأمر كما هو عليه اليوم.
فالوضع الحالي للمسرح في السودان، يبدو على تناقض مع بداياته الواعدة، أو"الفترة الذهبية" خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث كان يلقى رعاية الدولة.
بيد أن تضافر عوامل عديدة، على رأسها العاملان السياسي والاقتصادي، أدّى إلى تدهور المسرح السوداني. ووفقًا لبعض المتابعين، فإن العامل السياسي أدّى دورًا أكبر في ذلك، إذ عادة ما تعمد الحكومات إلى السيطرة على أساليب تفكير الناس، وتساورها شكوك في ما يتصل بالأعمال المسرحية. ونتيجةً لذلك، انكفأ روّاد المسرح سواءٌ أكانوا من العاملين فيه أو المتابعين له.
الزمن القديم، يسكن على ما يبدو ذاكرة السودانيين الذين كانوا يرتادونه بشكل عائلي، فأمّ كلثوم مثلًا امرأة تعدّت الخمسين من عمرها، تقول : "كان المسرح جزءًا أساسيًا من حياتنا، وكان الجميع يذهب إليه، وحين كنا نعرف بوجود مسرحية جديدة كنا نحرص أشد الحرص على مشاهدتها".
وفي ظلّ هذا المشهد الراكد، قد يبدو مفيدًا الالتفات إلى مسرحية "النظام يريد" التي شكّلت استثناءً في مآل المسرح السوداني أخيرًا، فقد عرضت لمدّة ثلاث سنوات، وكان آخر عروضها منذ أشهر قليلة. وقد لقيت المسرحية إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، حدّ إنها كادت أن تطيح بمقولة إن الجمهور هجر المسرح. تميّزت مسرحية "النظام يريد" بطابعها الكوميدي الساخر، حيث وجّهت انتقادات لاذعة للحكومة. لكن ذلك لم يؤدِ إلى إيقاف عرضها، ما طرح شكًا وجدالًا حولها، وسرت شائعات مفادها أن الحكومة تشجّع هذه المسرحية الساخرة، باعتبارها تسمح للسودانيين بالتنفيس، وخاصّة أن توقيت عرض المسرحية كان بعد ثورات الربيع العربي. بيد أن هذه "الطفرة"، إن جاز التعبير، لا تعني أن المسرح السوداني بخير. هذا على الأقل هو رأي الناقد المسرحي السرّ سيد أحمد: "يعود تراجع المسرح لأسباب تتعلّق بالعملية المسرحية نفسها، من إخراج وتأليف وتمثيل، فضلًا عن سياسات الدولة التي أدّت دورًا كبيرًا في ذلك التدهور. فمن أهم ملامح هذا التراجع هجر الجمهور للمسرح، وهو ما يدل عليه الواقع، إذ ثمة عروض مسرحية لم تمتدّ لأكثر من أسبوعين ولم يزد عدد حضورها عن المئة". وعند سؤاله عن أسباب أخرى، عاد الناقد إلى تاريخ المسرح السوداني وبداياته، ورأى أن من بين الأسباب أيضًا: "انكفاء المسرح على ذاته، وفقدانه لميزة الانفتاح، ولا سيما أن تجربة المسرح السوداني خلال الحقب الماضية تميّزت به، فقد قُدّمت عروض مسرحيات محمود دياب في الوطن العربي، ويمكن النظر إلى عروض "شوينقا" (وهي حكايات أفريقية اقتُبست للمسرح) باعتبارها انفتاحًا على البعد الأفريقي في الهوية السودانية مثلًا". ولا يبدو أن السياسة بعيدة عن هذا التراجع، وفقًا لسيد أحمد: "سياسات الدولة والنظام الحالي تحديدًا حاولت جعل الثقافة مجرد طقس احتفالي لا أكثر، إذ لا توجد سياسات للبناء الثقافي، وتمّ تحويل المسرح إلى ما يشبه المهرجان، وبذا غدت السودان الدولة الوحيدة في المنطقة المشهورة بتعدّد المهرجانات".
وإن كان تاريخ المسرح السوداني يتقاطع مع المسرح القومي، فقد أثّر ضعف هذا الأخير على وضع "أبو الفنون" في السودان، إذ إن النقص في التمويل يبقى أحد أهم الأسباب في ذلك، وهذا ما يؤكده الناقد: "أثّر غياب التمويل، خاصّة من قبل الدولة، سلبًا على العمل المسرحي. فميزانية المسرح القومي لا تتجاوز شهريًا مبلغ الاثني عشرة ألف جنيه سوداني، أي ما يعادل ألف دولار، وهو ما يؤدّي دورًا كابحًا ويجعل من عملية الإنتاج صعبة، فالعرض المسرحي الواحد قد يكلّف حوالي خمسة عشر ألف جنيه بما في ذلك أجور الممثلين، بينما يمثّل هذا المبلغ أجر ممثل واحد في دول أخرى".
ويبدو أن الخبير في الشأن المسرحي عثمان شنقر، يتفق مع الناقد، إذ يجد "أن التدخّل السياسي السافر من قبل الحكومة في عمل المسرح، هو أهم أسباب تدهوره. فالنظام الحالي عمد ومنذ بدايات حكمه إلى تطويع المسرح خدمةً لسياسته القائمة على محاباة الحركة الإسلامية، فابتدع ما يسمّى بـ"المسرح العابد"، حيث ألزم وضع "مئذنة" في خلفية أي عرض مسرحي". لكن شنقر لا يلخص الأمر بالعاملين السياسي والاقتصادي وإن كان يعلم مدى تأثيرهما، بل يذهب أبعد حين ينظر في جوهر العمل المسرحي، وينتقد "من الداخل" إن صحّ التعبير: "الفنانون أيضًا مسؤولون عن ضعف الحركة المسرحية في السودان، فملكاتهم الفنية والأدائية والفكرية ضعيفة، لذا تراجع الجمهور وانحصر في معارف طاقم العمل وأصدقائهم وبعض الإعلاميين المهتمّين بالمسرح"، لكنه ما يلبث أن يضيف، آملًا: "رغم الصورة القاتمة، ثمة إشراقات ولو قليلة بدأت تظهر أخيرًا، وتتعلّق بالمشاركات خارج السودان، وظهور مؤّلفين مسرحيين يرفدون الساحة بأعمال جديدة".
المساهمون