عبور مجرّة الوحل

25 يناير 2015
جورج بهجوري / مصر
+ الخط -

حين بدأت إرهاصات الثورة المصرية، كنا جميعاً نتابعها دقيقةً بدقيقة، وكنا جميعاً نحلم بوصول "العدوى التونسية " الطازجة إليها. نرى توحّش قوى الأمن في الساحات، كالعادة، ونفكّر في المأثور القديم "إذا زاد عن حدّه، انقلب إلى ضدّه".

فلمّا تحقّق الحلم، ورأينا مصر كلّها تخرج إلى الساحات والميادين، عاد بعضنا - وأنا منهم - بشكل شخصيّ لخليل حاوي، فرِحاً، أكاد لا أصدّق، لأُبشّره: كلاّ، زمن المعجزات لم ينته، وها هُم.. ها هو يعود، من تونس الرائدة إلى أرض المحروسة.. والحبلُ - يا شاعرنا الفادي - على الجرّار.

أذكر حين وقف ذلك الجنرال وأعلن تأييده للشعب، رافعاً تلك التحية الشهيرة، أنّ عاطفتي غلبت عقلي، فانهمر سيلُ دموع أمام أبنائي الصغار، بصمتٍ يليق بجلال اللحظة. أما حين ذهبَ المخلوع إلى حيث أَلقت، فراودتني النفس الأمّارة بالتغيير، أن مصر الكبيرة عبرت "مجرّة الوحل" أخيراً.

الباقي تعرفونه: أُوكِلت الثورة لمن لا علاقة لهم (كيلا نقول لسُرّاقها)، وبدأنا نشكّ، لكن التفكير في أنّ شعب مصر، كَسَرَ حاجز الرعب للأبد، كان يُعيدنا إلى تفاؤل حذِر، بل إلى تفكير رغائبي نريده، بيد أنّه معدوم.

نعزّي النفس عند كل شجن (وما أكثر أشجان هذه الثورة)، بأنّ زمن الحاكم ـ الإله، ولّى للأبد. وأنّ النهر للمنبع لا يعود. لكنْ هاتين الفرضيتيْن كذّبهما الواقعُ. وها هي مصر تعود للمربع الأول. كأنّ ما حدث كان مجرد حلم جميل واستيقظنا منه.

نعرف أنّ حرق المراحل التاريخية، لا يجوز. وأنّ ثورةً جذريةً كثورة الفرنسيين، مثلاً، احتاجت قرناً كاملاً لتشرع في تحقيق أهدافها. ذلك أن ميراث الدكتاتوريّات، في العالم أجمع، يستمر ويتوالد ويتحوصل ولا ينتهي إلا بمرور وقت طويل. مع استدراك أن زمن الثورات العربية، غير زمن الثورات القديمة. وعليه، ليس بالضرورة ولا بالافتراض، أن تُعيد كل ثورة جديدة إنتاج سابقتها، ففي صنيع كهذا، قفزٌ عن صيرورة التاريخ وخصوصيّاته، وإلغاءٌ لمساره الحلزوني بالجملة.

لذا، لا نخفي خيبتنا بما آلت إليه واحدة من أقوى الثورات في العصر الحديث. واحدة كان المقدّر أو المأمول، في ما لو نجحت، أن تغيّر المنطقة برمتها. واأسفاه! الثورة التي كالقطّة دارت حول ذيلها، وهناك انكمشت وسكنت إلى حين.

أمر مؤلم بحق، حين تتبخّر أحلام أجيال، وحين ينحاز "مثقفو البلد" بمعظمهم، للقبعة العسكرية، ضد صندوق الاقتراع، بدعاوى لا يقبلها عاقل، فضلاً عن مثقف مثلهم.

إنّما.. وبالمناسبة، منذ انفجر الربيع العربي، كان الشارع سابقاً المثقفين بسنوات ضوئية، وهم فحسب ركبوا الموجة وحاولوا اللحاق به. لذا لا تعويل عليهم؛ لأنّهم من ميراث الحقبة المظلمة، سواء كضحايا أو مطبّلين.

التعويل كان ويظلّ وسيبقى على الوقود الذي أرّث الشرارة فأشعل كومة الحطب. على الشعب ذاته، وفي الطليعة منه شريحة الشباب، فهي مطلقة الشرارة، وصاحبة المصلحة، وهي وحدّها ووحدها لا غير، المؤهّلة والمخوّلة بإضاءة ليل مصر (والمنطقة) الطويل.

* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة 

المساهمون