الوضع في مصر والعالم العربي هو الأسوأ في التاريخ المعاصر، فإجهاض ثورات الربيع العربي ترتب عليه الكثير من التداعيات السلبية، ليس على البعد السياسي وانهيار المسار الديمقراطي الوليد في مصر فحسب، إذ هناك أبعاد أخرى أهمها الانقسام المجتمعي الذي نتج عن السياسة الإقصائية لنظام ما بعد 3 يوليو، والتي تعتمد على المباراة الصفرية وتصفية كل القوى التي شاركت في الثورة، إضافة إلى التدهور الاقتصادي الناتج عن الفشل في معالجة القضايا الملحّة والتغاضي عن ملفات الفساد والبدء في تنفيذ مشاريع كبرى دون دراسات جدوى حقيقية أو مشاركة شعبية عبر مجالس نيابية منتخبة أو إعلام حر. وهناك، أيضاً، الاختراق الخارجي والتدخل السافر ضد إرادة الشعب ومطالبه في يناير 2011.
اقرأ أيضاً مصر: التنسيق مع "الفلول" أحدث مناورات حزب "النور" الانتخابية
ــ كيف تتوقع أن يتعامل النظام الحالي خلال الفترة المقبلة مع مختلف القوى السياسية؟
هناك "كتالوغ" معروف ومكرر لمثل هذه الأوضاع لدى جميع النظم الشمولية، يُدَّرس في الأكاديميات والجامعات لإجهاض حركات التغيير والحركات الوطنية، وهو ما يحاول النظام الحالي تطبيقه من خلال وسائل القمع والقتل والإخفاء القسري، إلى جانب استخدام الإعلام للتشويه ولزرع رواية رسمية تجافي الحقيقة، وحل كل المجالس المنتخبة على جميع المستويات البرلمانية والنقابية والمحلية والطلابية وغيرها. لا مستقبل لمثل هذا النوع من الأنظمة، التي انهارت بعدما خلّفت وراءها نكسات أو هزائم وعمّقت الكثير من الأزمات والمشكلات. ومشكلة العلاقات المدنية ـ العسكرية تعتبر من أكثر الأزمات التي تفاقمت على الرغم من أن ثورة يناير كانت فرصة لمعالجتها بما يؤدي إلى قيام دولة القانون والمؤسسات والعدالة والشفافية ويحفظ ويقوّي ويعزز من جاهزية وميزانية المؤسسة العسكرية في الوقت نفسه، لكن حال دون ذلك مصالح ضيقة لمجموعة من الأفراد، وضيق أفق الكثير من القوى السياسية وسياسات المجلس العسكري ومواقف القوى السياسية المختلفة (الإسلامية قبل 30 يونيو والمدنية قبيل 30 يونيو وبعدها ثم مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013).
ــ هل من وسيلة لإبعاد الجيش عن الحياة السياسية؟
تجارب الآخرين تقول، إن الجيوش تخرج من السلطة بصعوبة وبتضحيات جسيمة أو برجال دولة من العسكريين والمدنيين على قدر من المسؤولية، ثم تخرج الجيوش من السياسة بعد عمليات طويلة من الإصلاح والتفاوض على يد رجال دولة، أيضاً لم نصل إلى هذا الوضع في مصر بعد للأسف.
ــ يرى بعضهم أن النظام الحالي استطاع تغييب أو إرهاب النخبة والأحزاب المصرية وكذلك بعض الحركات، فهل يعني ذلك موت المعارضة؟
المعارضة لا تكون إلا في الدول التي تعيش حداً أدنى من الانفتاح، أما النظم التي تعتمد الإقصاء التام لكل المخالفين في الرأي فهي في واقع الأمر تخلق لها خصوماً وليس معارضين، وما يتبعه النظام الحالي من سياسات قمعية تتضمن قتل وتشريد ونفي عشرات الآلاف ستؤدي في مستقبل قريب إلى ملاحقة كل من تورط في قضايا الدم والتعذيب ومحاكمتهم وإقصائهم.
ــ وماذا عن موقف النخبة المصرية؟
جزء من نكبة مصر يكمن في نخبتها، فلدينا نخب ساعدت قبل 2011 في إطالة عمر نظام مبارك بتفرقها واختراقها من النظام، ثم ساعدت، أيضاً، في إجهاض ثورة يناير، حينما فشلت في إدارة المرحلة الانتقالية وتكالبت على مصالحها الضيقة.
ــ الشباب كان لهم موقف ودور واضح في ثورة 25 يناير، فهل تغير بعد الانقلاب أو الحكم العسكري، خصوصاً أن أغلب المعتقلين من هذه الفئة؟
الشباب هم من أشعلوا ثورة 25 يناير في الوقت الذي كانت هناك نخب سياسية تريد التهدئة حتى يتم إقناع مبارك بتعديل الدستور وإجراء إصلاحات فى الحياة السياسية التي لم تكن في ذلك الوقت قابلة للإصلاح. لكن المشكلة الأساسية أن الثورة التي قادها الشباب وأسقطت رأس النظام ثم تسلمت النخب القديمة التقليدية زمام الأمور لإدارة المرحلة الانتقالية بالعقلية نفسها الأمر الذي أوصلنا إلى انهيار المسار وتدخل الجيش المباشر في السياسة.
الآن، الشباب هو المستهدف بالطبع لأنه هو القوة الحقيقية والكامنة للثورة، ولهذا هناك حاجة ملحّة لعودة روح يناير وظهور كتلة تاريخية جديدة تستوعب الأخطاء القديمة وتقرأ الواقع جيداً وتقود موجة ثورية جديدة، وهذا أمر ممكن بالنظر إلى فشل النظام في إدارة الدولة سياسياً واقتصادياً من جهة، وتصدع الجبهة التي تشكلت في 30 يونيو وإدراك كثير من مكوناتها خطأ مسار يوليو 2013 من جهة أخرى.
ــ إقصاء الإخوان وظهور أحزاب وقوى سياسية جديدة بعد الانقلاب العسكري، هل يغير في الخريطة السياسية؟
لا يمكن القضاء على فصيل كبير كجماعة الإخوان، فهو جزء من نسيج المجتمع المصري وقوة سياسية أساسية، ومن الخطأ تحميله مسؤولية كل الأخطاء التي تمت بعد الإطاحة بمبارك، كما لا يمكن تخيل انصرافهم واختفائهم هم وأنصارهم لمجرد تشويههم وشيطنتهم في الإعلام. نعم الجماعة أخطأت أخطاء جسيمة، لكن بقية القوى أخطأت، أيضاً، وكذا المجلس العسكري الذي انفرد بحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية، كما أن الرئيس المنتخب استُهدف منذ البداية، والقوى السياسية الحالية ترتكب خطايا كبرى بمباركتها السياسة الإقصائية وقتل واعتقال الآلاف.
كما أن إجهاض الثورة في مصر ليس عملاً داخلياً بحتاً، فهناك أطراف دولية وإقليمية خططت، منذ اليوم الأول، للقضاء على ثورة يناير التي هي ثورة ديمقراطية وتحررية تستهدف تحرير المنطقة ووضعها على بداية الطريق المؤدي إلى الحكم الرشيد والشفافية في الداخل والتحرر من التبعية من الخارج.
ــ ما مستقبل حزب النور وإمكانية ملء فراع غياب الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان سواء في الشارع أو في المنافسة البرلمانية؟
إذا أراد حزب النور أو غيره من الأحزاب ممارسة السياسة فعلاً، فعليه الضغط على السلطة لاحترام الدستور والقانون وإسقاط كل القوانين المقيدة للحياة السياسية وإنهاء سياسة الإقصاء والقبضة الأمنية والكفّ عن التضليل الإعلامي والسيطرة على المجتمع المدني والجامعات والنقابات، هذا هو الطريق الوحيد لتصور وجود منافسة سياسية على السلطة.
ــ كيف ترى غياب السلطة التشريعية أكثر من عامين؟
يخطئ من يتصور أنه يمكن أن ينافس ويحاول الإصلاح من الداخل، فالنظام الحالي لن يسمح ببرلمان وتنافس حقيقي، ولعل الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية أثبتتا هذا، فلم يكن هناك لا إطار قانوني ودستوري حقيقي، ولا ضمانات لتنافس حقيقي، ولم يمتلك الناخبون حرية الاختيار بعد أن فُرضت عليهم اختيارات معينة عبر أدوات مختلفة من الترهيب المادي أو الشحن الإعلامي.
ــ ما أسباب استمرار حالة الانقسام والاستقطاب السياسي بعد الانقلاب العسكري فى المجتمع المصري؟
من الأسباب الرئيسية لهذا الاستقطاب الحاد سيادة عقلية انهزامية وتقزيمية لدى بعض القوى والنخب التي تعيش في عصر غير العصر الحالي، هذه العقلية تحكمها عدة أساطير وقناعات زرعتها نظم الاستبداد والفساد منذ عقود طويلة، ومنها "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، "مصر حالة فريدة ولن تتغير أبدا"، "الشعب المصري غير قابل للديمقراطية"، "لا بديل عن حكم الفرد المستبد في مصر"، "لا يصلح مع المصريين إلا الكرباج".. وغير ذلك من القناعات المدمّرة، التي يثبت تاريخ مصر الحديث أنها غير حقيقية، إن أي تغيير حقيقي يحتاج وقتاً ممتداً ويكون له ثمن باهظ.
ــ من تحمله مسؤولية العنف في الشارع الآن؟
العنف نتيجة منطقية لانهيار المسار الديمقراطي وإجهاض مطالب الثورة واعتماد السياسة الاقصائية تجاه المخالفين في الرأي، ولن يتم القضاء على العنف أو الإرهاب إلا بالرضوخ لإرادة الشعب في ممارسة حريته واختيار حكامه، واعتماد الحكام المنتخبين حقاً برامج عدالة اجتماعية حقيقية، وفي ظل رقابة مؤسسية وشعبية وقضاء مستقل وإعلام حر، وهذا لن يتم في ظل الاستقطاب والإقصاء والاحتراب الأهلي. وفي كل الحالات التي تدخلت فيها الجيوش في السياسة، كان هناك إرهاب وعنف يتم استخدامه لتبرير استمرار العسكريين في السلطة والترويج لسياسة إقصاء الآخر.
وهناك بُعد آخر مهم، وهو أن الإقصاء والقتل والإعدامات والاعتقالات العشوائية تدفع الكثير من الشباب إلى العنف بغرض الانتقام. معظم الحروب الأهلية لا ينتصر فيها طرف على الآخر ولا تنتهي بإبادة طرف، إنما بتصالح طرفين منهكين ومحطمين وأشلاء وطن ممزق، وثانيهما أن كل الدول التي تخرج من حروب أهلية تظل دولاً ضعيفة لسنوات وعقود.
ــ هل تتوقع ظهوراً أكبر للعنف أم اختفاءه؟
لا أعرف. العنف نتيجة وليس سبباً، والإنسان لا يولد وفي يده السلاح، إنما الظلم والقهر والعدوان هي العوامل التي تولد ردود فعل عنيفة. يستمر إذا استمرت حالة الاستقطاب وسياسة الإقصاء وتحييد الشعب سياسياً والهيمنة والسيطرة عليه، وينحسر العنف ولا يكون أداة للمحبطين عندما تسقط الأسوار التي يبنيها الطغاة، وعندما يجد الشعب بجميع فئاته طرقاً متعددة لممارسة السياسة بشكل سلمي متحضر ومحاربة الفساد وإقرار العدالة الاجتماعية وتحقيق الشفافية في الحكم والمحاسبة والإدارة.
ــ بيان "الاشتراكيين الثوريين"، هل يكون بداية تحرك ثوري مشترك من قوى يناير وبداية عودة الروح للشارع المصري؟
أي جهد لتحقيق تكتل وطني عابر للأيديولوجيات هو بداية الطريق الصحيح، وأعتقد أنه سيكون في مقدور الشباب من مختلف التيارات التقارب في لحظة تاريخية معينة وتشكيل كتلة تاريخية على قاعدة العدالة والحريات والكرامة ستواجه الثورة المضادة في جولة ثورية جديدة، لكن سيكون الثمن مرتفعاً. والأرضية المشتركة لأي تكتل ديمقراطي لا بد أن تنطلق من مطالب ثورة يناير وبناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتبني نظام للعدالة الانتقالية، يكون مستقلاً تماماً عن السلطة التنفيذية، مع الحفاظ على كافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية التي لا بد أن تعود إلى مهمتها الأساسية في الدفاع عن الوطن دون إقحامها في السياسة أو في خلافات القوى السياسية حفاظاً عليها وعلى الدولة والمجتمع.
ــ ما رأيك في وضعية رافضي الانقلاب، هل يقفون في المكان المناسب لمعارضة الانقلاب، أم نجح الانقلاب في إلزامهم اتخاذَ مواقف دفاعية طول الوقت؟
لا أتصور أن معارضة النظام الحالي تضم مؤيدي الشرعية فقط، فشريحة المعارضين تتسع ولو فُتحت الميادين أمامهم لعرف الناس الأحجام، ولو كان الإعلام حراً لسمعنا الرأي والرأي الآخر. أعتقد أن تكتل 30 يونيو الذي كان قائماً في لحظة تاريخية ما، لم يعد له وجود الآن، فقد فهمت القوى الشبابية الثورية حقيقة الثورة المضادة بعد أن كانت تتصور (خطأ) أن إسقاط مرسي سيمهّد الأرض لتحقيق مطالب ثورة يناير. وهناك شخصيات عامة تراجعت عن تأييد المسار الحالي بعد أن اتضح لها فداحة الاستقواء بالجيش لحسم الخلافات السياسية، وهي تلوذ بالصمت، كما أن هناك فئة تعرف خطأ المسار، لكنها تكابر لأنه ليس أمامها طريق للعودة، لذلك ما يجب أن يشغلنا هو أنصار ثورة يناير وكيفية استعادة روح يناير والتكتل خلف أهداف يناير.
ــ هل نجح النظام الحالي في اكتساب شرعية دولية؟
يجب أن يعرف الجميع أن الدعم الغربي للنظم الشمولية والانقلابات العسكرية يمثل سياسة ثابتة، وقد مارس الغرب هذه السياسة تجاه أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا منذ عقود طويلة، وفي عالمنا العربي هناك سياسة خارجية غربية ثابتة تقوم على دعم الحكومات المطلقة، منذ نشأة الدول العربية، بعد الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم.
ــ ما أسباب دعم الغرب للانقلاب العسكري في مصر؟
هذا الدعم يمثل أحد أعمدة الموقف الغربي لثلاثة أسباب على الأقل؛ الأول منع إقامة حكومات وطنية منتخبة من الشعوب ومسؤولة أمامها؛ لأن مثل هذا النوع من الحكومات الوطنية سيدافع عن مصالح الشعوب وليس النخب الحاكمة، والسبب الثاني هو الدفاع عن دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، فأي حكومة عربية منتخبة ستقف حتماً مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وستقاوم الاحتلال بكل الطرق الممكنة، والسبب الثالث هو المصالح الاقتصادية وضمان تدفق النفط بأسعار منخفضة وضمان استمرار استثمار الفوائض المالية البترولية في الغرب.
ــ هل ترى أن إسرائيل طرف في مؤامرات تحاك لمصر أو إجهاض ثورات الربيع العربي؟
بالطبع ليس من مصلحة دولة الاحتلال الصهيوني رؤية حكومات وطنية في العواصم العربية، وقد استوعبت الحكومة الصهوينة صدمة الثورات ثم تحالفت بشكل تام مع الثورات المضادة، وسيكشف المستقبل القريب حجم هذا التعاون والذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ هذه الدولة الصهيونية. لكن وبرغم هذا فالشعوب الآن في المعادلة وسيرتد السحر على الساحر والمعركة طويلة.
ــ انتهاكات حقوق الإنسان كانت من أهم الأسباب التي أسهمت في اندلاع ثورة 25 يناير، فهل تغير الوضع بعد الانقلاب ومقارنة ذلك بفترة مبارك؟
الوضع، الآن، أصعب وأسوأ، لكن ما يحصل يمثل نتيجة متوقعة لكل الأخطاء التي ارتكبت وهو يعكس حجم المصالح الفاسدة التي كانت ولا تزال مرتبطة بالنخب الحاكمة. وتغيير هذه الأوضاع أمر صعب كما أشرت من قبل، لكنه حتمي بعد دفع ثمن التغيير، وقد بدأ مسار التحرر ولن يتوقف، وفي هذا الإطار يمكن فهم حجم الانتهاكات التي ترتكب والثمن الذي يدفع.
ــ ما رأيك في الجدل حول تفريعة قناة السويس الجديدة والجدوى منها فى ظل اتهام بعضهم السلطات الحالية بالمبالغة فى العائد منها؟
موضوع التفريعة الجديدة مثله مثل كل المشروعات الكبرى التي أُعلن عنها خلال العامين الماضيين في ظل استقطاب سياسي حاد وبدون دراسات جدوى اقتصادية، وفي غيبة الدستور والمؤسسات المنتخبة وأجهزة رقابية مستقلة. أتمنى أن تعود هذه المشروعات بالنفع على المواطنين، لكن المقدمات والعلم الحديث يشككان في إمكانية تحقق هذه الأمنية، وبشكل عام أي تطوير لقناة السويس قد يكون أمراً أيجابياً. لكن للأمر أبعاد أخرى اقتصادية وتجارية وكان لا بد أن يسبق كل مشروع اقتصادي دراسات جدوى حقيقية، كما تقول أبجديات علم الاقتصاد. أما البعد السياسي فقد كان من الضروري أن يتم هذا عبر مؤسسات منتخبة ونقاش حر في إعلام حر، وكان لا بد من تجنب المبالغات واستخدام الحدث لأسباب سياسية وهمية.
اقرأ أيضاً مصر: تأجيل ثانٍ للانتخابات البرلمانية... وأجواء تعديل حكومي