كان عبد العالي بكري لا يزال طفلاً عندما تعلّم الأعمال الحرفيّة، قبل عقود طويلة. جرّب بعضاً منها، قبل أن يختار النحاس الذي تعلّق به وأصبح له دكّانه
يُقال إنّ الرحالة ابن بطوطة مدفون في حي القصبة القديم بطنجة. لكنّ أحداً لا يتخيّل أنّ وراء ذلك الباب ضريح. لا شيء يوحي بذلك، ولا حتى لافتة.
على بعد خمس خطوات، دكّان صغير للنحاس يفتح بابه صباحاً ومساءً، مع استراحة قصيرة عند الظهيرة. في داخله، يجلس عبد العالي بكري، وهو واحد من بين قلّة ما زالت تطرق النحاس في المدينة حتى يومنا هذا. كانوا 27 مغربياً، لم يبقَ منهم إلا سبعة.
في الثامنة من عمره كانت بدايات بكري مع "الصنائع التقليدية. أوّلاً، صناعة الجلد. كان المعلّم في المحلّ يقول: الله أرسلك لي. كنت أبتكر نماذج تدفع التجّار إلى التعجّب من إتقانها وأشكالها الإبداعية. في المقابل، كنت أتلقى الهدايا. لكننّي تركت العمل في الجلد لأسباب صحية، إذ كنت أتنشّق غباره". وراح بكري يمضي وقته كل يوم عند واحد من أصدقائه الحرفيين ليتعلّم حرفة جديدة، قبل أن يستقرّ في صناعة النحاس، أباريق الشاي والصواني والمرايا والأبواب... "كلّها تحتاج إلى دقّة وحرفية".
مرايا وثريات النحاس المعلقة على جدران الدكان، تخرج من مخيّلة بكري. هل كان يرسمها على ورق قبل أن ينفّذ تصاميمه تلك؟ كلا، كان يقصّ ويشكّل ويزخرف بطريقة عفوية. "كنت أنفّذ ما أتصوّره مباشرة على النحاس، وأشارك في معارض في مدن ورزازات ومراكش وفاس وتطوان وطنجة". وبكري يعمل على القطع الصغيرة ويبتعد عن الكبيرة منها، "وقد عرض عليّ بعض الحرفيين أن أعمل في مراكش، لكنني رفضت. شرحت لهم أنّ الأمر يتعلّق بالاشتياق إلى دكاني الصغير في طنجة وتعوّدي على رطوبة البحر".
محله الصغير مفتوح على ساحة كأنّها تابعة لبيت لم يكتمل بناء سقفه. أمّا واجهته فمرصّعة بالزليج (فسيفساء مغربية)الأصفر والأزرق بهندسة أندلسية قديمة، يتصوّر الجميع أمامها. يمرّ السيّاح إمّا ضاحكين وإمّا صامتين، فيما يلقي الجيران السلام سريعاً أو يتمهّلون ويجلسون لتناول كأس شاي مع العمّ بكري. قد يستأذنونه لاستعارة سجّادة الصلاة لأداء فرض، ثم يعيدونها إلى مكانها. صحيح أنّه يتكلّم اللغتين الإسبانية والفرنسية، لكنّه يؤكّد: "أتحدث عبر صنعتي".
اقــرأ أيضاً
يُقال إنّ الرحالة ابن بطوطة مدفون في حي القصبة القديم بطنجة. لكنّ أحداً لا يتخيّل أنّ وراء ذلك الباب ضريح. لا شيء يوحي بذلك، ولا حتى لافتة.
على بعد خمس خطوات، دكّان صغير للنحاس يفتح بابه صباحاً ومساءً، مع استراحة قصيرة عند الظهيرة. في داخله، يجلس عبد العالي بكري، وهو واحد من بين قلّة ما زالت تطرق النحاس في المدينة حتى يومنا هذا. كانوا 27 مغربياً، لم يبقَ منهم إلا سبعة.
في الثامنة من عمره كانت بدايات بكري مع "الصنائع التقليدية. أوّلاً، صناعة الجلد. كان المعلّم في المحلّ يقول: الله أرسلك لي. كنت أبتكر نماذج تدفع التجّار إلى التعجّب من إتقانها وأشكالها الإبداعية. في المقابل، كنت أتلقى الهدايا. لكننّي تركت العمل في الجلد لأسباب صحية، إذ كنت أتنشّق غباره". وراح بكري يمضي وقته كل يوم عند واحد من أصدقائه الحرفيين ليتعلّم حرفة جديدة، قبل أن يستقرّ في صناعة النحاس، أباريق الشاي والصواني والمرايا والأبواب... "كلّها تحتاج إلى دقّة وحرفية".
مرايا وثريات النحاس المعلقة على جدران الدكان، تخرج من مخيّلة بكري. هل كان يرسمها على ورق قبل أن ينفّذ تصاميمه تلك؟ كلا، كان يقصّ ويشكّل ويزخرف بطريقة عفوية. "كنت أنفّذ ما أتصوّره مباشرة على النحاس، وأشارك في معارض في مدن ورزازات ومراكش وفاس وتطوان وطنجة". وبكري يعمل على القطع الصغيرة ويبتعد عن الكبيرة منها، "وقد عرض عليّ بعض الحرفيين أن أعمل في مراكش، لكنني رفضت. شرحت لهم أنّ الأمر يتعلّق بالاشتياق إلى دكاني الصغير في طنجة وتعوّدي على رطوبة البحر".
محله الصغير مفتوح على ساحة كأنّها تابعة لبيت لم يكتمل بناء سقفه. أمّا واجهته فمرصّعة بالزليج (فسيفساء مغربية)الأصفر والأزرق بهندسة أندلسية قديمة، يتصوّر الجميع أمامها. يمرّ السيّاح إمّا ضاحكين وإمّا صامتين، فيما يلقي الجيران السلام سريعاً أو يتمهّلون ويجلسون لتناول كأس شاي مع العمّ بكري. قد يستأذنونه لاستعارة سجّادة الصلاة لأداء فرض، ثم يعيدونها إلى مكانها. صحيح أنّه يتكلّم اللغتين الإسبانية والفرنسية، لكنّه يؤكّد: "أتحدث عبر صنعتي".
منذ 27 عاماً، يتحرّك بكري بجسده النحيل وقامته الطويلة في المكان، فيرتّب عدّته قبل أن يباشر يومه. يجلس في المكان نفسه ويستمع إلى الراديو، فيما يتقن على مهل تصاميمه المتنوّعة إلى أن يحين المساء. "وكلّما رغبت في كسر روتيني، أتوجّه إلى البحر وأطهو الطاجين هناك".
العم بكري قادر على إنجاز الأشكال البسيطة وكذلك تلك المزخرفة المعقدة. "الزبائن بأغلبيتهم يطلبون الأشكال البسيطة. إذا صنعت خمسين قطعة مزخرفة، أنهي في المقابل مائة قطعة بسيطة خالية من الزخرفة". لكنّ تلك البسيطة "أصعب من المزخرفة، لأنها لا تحتمل حتى الخدوش الصغيرة".
يستخدم بكري النحاس الأصفر في ثرياته ومراياه، إذ الطلب عليه أكبر. أمّا الأحمر، فتطلبه قلّة من الناس، والأبيض هو الأغلى ثمناً. عندما يعمل، لا يحبّذ مشاركة أيّ كان. "لا توجد يد تشبه الأخرى، تماماً مثل عملية الطبخ. الطبق نفسه بمكوّناته نفسها، يعدّه كثيرون. لكن الطعم لا بدّ من أن يختلف. لذلك، أفضّل العمل لوحدي. وأنا سعيد بذلك".
يؤمن بكري بتعدد المهارات، بالنسبة إليه "على الصانع أن يكون محترفاً في كلّ شيء تقريباً". هو لا يعمل تحت جناح مهيكل مهنياً.. لا نقابة ولا تعاونية. "نحن أحرار في عملنا. وأفكّر في جمع حرفيّي النحاس في طنجة في تعاونية خاصة، حتى نحافظ على مهنتنا".
ترتكز صناعة النحاس على استخدام اليدَين أكثر من الماكينة التي دخلت لفترة من دون أن تستمرّ طويلاً. ما يستخدمه هو "طاولة موقوفة" من الحديد تُستخدم في رقّ النحاس. لا يتحمل بكري أن تصاب هذه الطاولة بأيّ خدش، "فهي مثل وجهي". كذلك، ثمّة طاولة أخرى للزخرفة بالإضافة إلى مطارق من الخشب والحديد ومسامير صغيرة وأخرى غليظة، منها ما هو مدبّب بشكل حاد أو مربّع أو دائري للزخرفة.
عند سؤاله عن سعر النحاس في السوق، لا يتردّد: "غال.. غال! كنّا نشتريه بعشرين درهماً (دولاران أميركيان)، أما اليوم فقد تضاعف سعره عشر مرّات. وقد بدأ النحاس يختفي من البازارات، بعدما كانت مدينة مراكش مثلاً تشتعل به". ما الذي حدث؟ "نحن لا نرفع صوتنا. كلّ واحد منّا يعمل فردياً. لا نجتمع ولا نحتجّ على شيء".
لن يتمكّن العم بكري أبداً من التخلّي عن مهنته. "هي عزيزة عليّ، على الرغم من عروض العمل الأخرى المتوفّرة. لا بدّ أن أهتمّ بها وأعزّها حتى تعزّني". بالنسبة إليه، "هذا المكان هو مملكتي الخاصة.. وفيها أرتاح".
اقــرأ أيضاً
العم بكري قادر على إنجاز الأشكال البسيطة وكذلك تلك المزخرفة المعقدة. "الزبائن بأغلبيتهم يطلبون الأشكال البسيطة. إذا صنعت خمسين قطعة مزخرفة، أنهي في المقابل مائة قطعة بسيطة خالية من الزخرفة". لكنّ تلك البسيطة "أصعب من المزخرفة، لأنها لا تحتمل حتى الخدوش الصغيرة".
يستخدم بكري النحاس الأصفر في ثرياته ومراياه، إذ الطلب عليه أكبر. أمّا الأحمر، فتطلبه قلّة من الناس، والأبيض هو الأغلى ثمناً. عندما يعمل، لا يحبّذ مشاركة أيّ كان. "لا توجد يد تشبه الأخرى، تماماً مثل عملية الطبخ. الطبق نفسه بمكوّناته نفسها، يعدّه كثيرون. لكن الطعم لا بدّ من أن يختلف. لذلك، أفضّل العمل لوحدي. وأنا سعيد بذلك".
يؤمن بكري بتعدد المهارات، بالنسبة إليه "على الصانع أن يكون محترفاً في كلّ شيء تقريباً". هو لا يعمل تحت جناح مهيكل مهنياً.. لا نقابة ولا تعاونية. "نحن أحرار في عملنا. وأفكّر في جمع حرفيّي النحاس في طنجة في تعاونية خاصة، حتى نحافظ على مهنتنا".
ترتكز صناعة النحاس على استخدام اليدَين أكثر من الماكينة التي دخلت لفترة من دون أن تستمرّ طويلاً. ما يستخدمه هو "طاولة موقوفة" من الحديد تُستخدم في رقّ النحاس. لا يتحمل بكري أن تصاب هذه الطاولة بأيّ خدش، "فهي مثل وجهي". كذلك، ثمّة طاولة أخرى للزخرفة بالإضافة إلى مطارق من الخشب والحديد ومسامير صغيرة وأخرى غليظة، منها ما هو مدبّب بشكل حاد أو مربّع أو دائري للزخرفة.
عند سؤاله عن سعر النحاس في السوق، لا يتردّد: "غال.. غال! كنّا نشتريه بعشرين درهماً (دولاران أميركيان)، أما اليوم فقد تضاعف سعره عشر مرّات. وقد بدأ النحاس يختفي من البازارات، بعدما كانت مدينة مراكش مثلاً تشتعل به". ما الذي حدث؟ "نحن لا نرفع صوتنا. كلّ واحد منّا يعمل فردياً. لا نجتمع ولا نحتجّ على شيء".
لن يتمكّن العم بكري أبداً من التخلّي عن مهنته. "هي عزيزة عليّ، على الرغم من عروض العمل الأخرى المتوفّرة. لا بدّ أن أهتمّ بها وأعزّها حتى تعزّني". بالنسبة إليه، "هذا المكان هو مملكتي الخاصة.. وفيها أرتاح".