عبد السلام بوحجر: هكذا يموت الشعراء.. في صمت دائم

09 يناير 2019
(عبد السلام بوحجر)
+ الخط -

بجهد أحاول خطّ هذه السطور، بالألم الذي يجد في اليوم مساحة حرية أمام قمع الواقعية الباردة، أن أخرج من اللعبة المستهلكة بين الموت والحياة. معاكساً تيَّار الرثاء الملحمي، لن أطرح السؤال الكلبي: "كم من الوقت مضى منذ أن اكتشفنا التوأمين؟".

بل أتحصن بما يكفي من القناعة الرصينة: أيجدر بنا دائماً أن نكون هيِّنين أمام حدث الموت الطارئ؟ وأن يرغمنا هذا الحدث المبتذل للخوض مجدداً في إعادة اكتشاف ماهية الموت؟ ذلك حقًاً ما لا أظنه، وما يتقنه الشعراء حقًاً كذلك. أي الموت في صمت، والذي اعتدنا أن نخطئ في اعتباره شكلاً من أشكال المأساوية، نرى في نقيضه المجد الوجودي. وفي غفلة عن الطبيعة الجدلية للوجود، نقع في هذه المشاطرة الشكلية؛ نبكي رعبنا الغريزي من العدم.

وفي غفلة كذلك عن طبيعة الوجود، نغفل كون الخلود ثالثاً مرفوعاً لهذه الجدلية، كما نستشفه من الملحمة السومرية، يقبع طرفاها (كلكامش/أنكيدو) حدثان عرضيان، يقعان في معزل عن ذاتية الوعي ووهم الاختيار بما هو محاولة تسلّط على الواقع. بصيغة إمبريقية؛ يموت الثاني (أنكيدو)، ويموت الأول (كلجامش)، بينما يرث خيوط الملحمة شاعر في القرن العشرين، ليحيك منها رداء يدفئه من رعشة شيخوخة قهرية.

والشعراء كما عوّدونا دائماً؛ يحسنون الموت في صمت، مهما عاشوا في صخب. تعيدني هذه الفكرة لمن رغبت في الحديث عنه في هذه السطور، عبد السلام بوحجر (1955-2019) الذي غادرنا الأسبوع الماضي، ولتكن القصة كما يلي: شاعر عاش وسط الفحم ومات (نقطة نهاية).

ينبت الشِّعر كالفطر، في أماكن لا تخطر على بال ماعز هضاب الشرق المغربي، بين المفاحم البدائية، تنبع نغمة حزينة مترجمةً كل ما تفنن جورج لوكاش من قبل في خطه عن الواقعية؛ ذلك الارتباط المنهجي بين قساوة العيش والحنين الدائم، إلى ما فوق. بحبر من حمأ، بدم مقطر، تكتب القصيدةَ: "لأنكَ تستجيبُ لرعشةِ الجدلِ المُصَعّـَدِ.. من عذابِكَ في خطابِكَ: هذه رؤيا(كَ) وذاكَ مَجَازُهَ". فوق كثبان المزبلة الهوميرية على هامش المدينة المنكوبة، يحلِّق عبد السلام بوحجر. طروادة ليست هنا، على حرف الهاء يشدّ وتر القلم، والهاء عقدة هيلين وقدر الحرية.

مطاردين أو مطرودين، من مدينة أفلاطون الفاضلة إلى القرآن المقدس، يمشون يجرّون الغواة من ورائهم سلاسل آدمية. لن أعيد نفس الجملة البكائية، باستعارة صورة رحلة الأندلسي الأخير، والقول: لماذا يُلعنُ الشعراء ويكرَّم السياسيون؟

فالشعر بطولة فردية، من أيام الطفولة البشرية إلى عصر البنك الدولي. يحضرني هنا قول المفكر السلوفيني: "التوتاليتارية صناعة الشعراء، لا الفلاسفة". يمكن أن يكون لقول كهذا قليل من الأحقية، لو نظرنا إليه بعين العصر، عين القوة كقيمة سامية مقرونة بالبراءة المفترضة، حيث يصدق الشاعر إذا لم يجد عنده شيء يخاف منه، أو يخاف عليه.

وبالتالي تكون الشعرية ممارسة الظافرين على كل القيود، المنتصرين على الميتافيزيقا إذ يدفعونها كي تستعير منهم السلاح/اللغة، الثائرين على الواقع إذ يعبرونه جيئة وذهاباً، بحرية من تحت إلى فوق، ومن فوق إلى تحت. يسكنون التاريخ كما النسور، ويموتون كالثعالب وحدهم.

قد يكون موت شاعرٍ قضية عرضية، بينما حياة الشاعر دائماً خارج هذه اللعبة الثنائية.


* كاتب من المغرب

المساهمون