عبد الرزاق عبد الواحد: جفّت عروق القلب

08 نوفمبر 2015
(1930 - 2015)
+ الخط -

قبل قرابة شهر ونصف، أُشيع في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإخبارية، نبأ رحيل الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، إلّا أن مصادر مقرّبة منه نفت ذلك. هذه المرة لم يكن الأمر إشاعة، فقد رحل الشاعر أمس عن 85 عاماً في باريس، هو الذي قضى معظم سنوات عقديه الأخيرين في عمّان بعد خروجه من العراق.

وُلد صاحب "الخيمة الثانية" في بغداد عام 1930 وأكمل فيها دراسته حيث تخرّج من قسم اللغة العربية في "دار المعلمين" عام 1952. لاحقاً، عمل في وزارتي الثقافة والإعلام، وشغل مناصب عدّة وكان مقرّباً من الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وهو الأمر الذي ظل يعتز به في لقاءاته.

عُرف عبد الواحد بقربه من صدام، حتّى أنّه ظلّ يكتب فيه الشّعر بعد رحيله: "ما أزال أعشقه وأكتب له"، يقول صاحب "في مواسم التعب" في لقاءٍ له، وكتب في رثائه: "لستُ أرثيك لا يجوز الرّثاءُ / كيف يُرثى الجلالُ والكبرياءُ.. لستُ أرثيك يا كبيرَ المعالي / هكذا وقفةُ المعالي تشاءُ..". مع هذا، ينفي عبد الواحد أنّه شاعر سياسيّ؛ "لأنّ السياسة والسياسيين متلوّنون ومصلحيّون ومتقلّبون".

بعد احتلال العراق عام 2003، غادر عبد الواحد بلاده وذهب ليتنقّل للعيش بين دمشق وعمّان التي استقرّ فيها. هناك، التفّ حوله كتّاب الشعر التقليديون، إضافة إلى الكتّاب البعثيين. وكان مرحّباً به في أوساطهم، ويستغلّون الفرص لإقامة أمسيات احتفاء به. قبل أقل من شهر، أُقيمت له أمسية في "رابطة الكتّاب الأردنيين".

وقبل أيّام قليلة، شارك في "مهرجان الزرقاء الدولي للشعر"؛ إذ افتُتحت الفعاليات بأمسية له، ويُقال إنّه أثناءها تعرّض إلى أزمة قلبية نُقل على إثرها إلى أحد المشافي في باريس.

عبد الواحد إلى يسار محمد مهدي الجواهري


إلى جانب التزامه بكتابة الشعر العمودي حتى رحيله، كتب عبد الواحد أيضاً الشعر العامي، خصوصاً في فترة الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) التي يعتبره بعضهم شاعرها؛ فصاغ الشعر الحماسي أثناءها وانعطف قليلاً نحو العامية: "لا والله والعبّاس.. نوقع زِلم فوق الزلم لمن يشيّبَ الرّاس"، ولحّنها آنذاك طالب القرّه غولي.

تظلّ تجربة صاحب "قمر في شواطئ العمارة" مزيجاً بين الانهماك في الكتابة التقليدية وتكريس الخطاب الحماسي الجماهيري، واستعمالها أيضاً في إنشاد المدائح لصدّام حسين، وأكثر ما غاب عنها هو تقديم مقترح شعريّ متمايز عن تجربة محمد مهدي الجواهري، التي تبدو تجربة عبد الواحد كأنما سارت في إثرها باستثناء جزئية المعارضة السياسية التي اقترنت بالجواهري داخل العراق. لم يتجاوز عبد الواحد حروب ومآسي بلده ومديح قائده، نحو رؤيا جمالية وفنية للشعر.

هكذا، وضعت تجربته نفسها في شكل وسمة محدّدين، يصعب النظر إليها بمعزلٍ عنهما، بغضّ النظر عن الموقف السياسي الذي تدعو إليه.

سلامٌ على بغداد

كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها
وأني على أمني لديها أخافُها
كبيرٌ عليها، بعدما شابَ مفرقي
وجفَّتْ عروقُ القلبِ حتى شغافُها
تَتبَّعثُ للسَّبعين شطآنَ نهرِها
وأمواجَهُ في الليلِ كيف ارتجافُها
وآخَيتُ فيها النَّخلَ طَلعاً، فَمُبسِراً
إلى التمر، والأعذاقُ زاهٍ قطافُها
تَتبَّعتُ أولادي وهم يملأونها
صغاراً إلى أن شَيَّبتهُم ضفافُها!
تتبَّعتُ أوجاعي، ومسرى قصائدي
وأيامَ يُغني كلَّ نفسٍ كفافُها
وأيامَ أهلي يملأُ الغيثُ دارهَم
حياءً، ويُرويهم حياءً جفافُها!
فلم أرَ في بغداد، مهما تلبَّدتْ
مَواجعُها، عيناً يهونُ انذرافُها
ولم أرَ فيها فضلَ نفسٍ، وإن ذوَتْ
ينازعُها في الضائقات انحرافُها
وكنّا إذا أخَنَتْ على الناس غُمّةٌ
نقولُ بعون الله يأتي انكشافُها
ونغفو، وتغفو دورُنا مطمئنّةً
وسائُدها طُهرٌ، وطهرٌ لحافُها
فماذا جرى للأرض حتى تبدَّلتْ
بحيث استوَتْ وديانُها وشِعافُها
وماذا جرى للأرض حتى تلوَّثت
إلى حدّ في الأرحام ضجَّتْ نِطافُها
وماذا جرى للأرض.. كانت عزيزةً
فهانتْ غَواليها، ودانت طِرافُها

*

سلامٌ على بغداد.. شاخَتْ من الأسى
شناشيلُها.. أبلامُها.. وقِفافُها
وشاخت شواطيها، وشاخت قبابُها
وشاخت لفرط الهمِّ حتى سُلافُها
فلا اكتُنِفَتْ بالخمر شطآنُ نهرِها
ولا عاد في وسعِ النَّدامى اكتنافُها!

*

سلامٌ على بغداد.. لستُ بعاتبٍ
عليها، وأنَّى لي وروحي غلافُها
فلو نسمةٌ طافتْ عليها بغيرِ ما
تُراحُ به، أدمى فؤادي طوافُها
وها أنا في السَّبعين أُزمِعُ عَوفَها
كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها!


اقرأ أيضاً: مظفر النواب: ثمانينية هادئة للشاعر الصاخب

دلالات
المساهمون