سمات عامة تحكم قصيدة عبده وازن في مجموعته الشعرية الجديدة "الأيام ليست لنودّعها" (منشورات الجمل). أكثرها نشاطاً هو بطانتها العدمية أو سوداويتها الملوَّنة بالاستعارات، وتأثيثها بالغياب أو الزوال.
قصيدة وازن البصرية، غير المجرّدة، تلامس الصوفي، أحياناً، في مقاربتها للمرئي والميتافيزيقي وتذويبها لكل ما يُستحضر في وعي الشاعر، محاولةً أن تطأ معنىً مغايراً للقصيدة. تختبر احتمالات الطبيعة فيها بشكل خاص، ومدى قدرة الشعر على مزاولة هذه الطبيعة وولوج أعماقها أو غُرفها الساكنة والخروج منها بقطعة حلوى شعرية لها مذاق طازج على الأقل.
الكتاب يأتي ككتلة واحدة تتداخل فيها القصائد بأصواتها وموضوعاتها. لكن ما يربط بينها هو أنها نتاج نظام في بناء القصيدة يسعى للظفر بصيرورة شعرية متناغمة وينتهي بتوليد إشكالية بصرية تسحب خلفها استفزازاً لذهن القارئ. فهي قصائد تمتلئ لتنسف نفسها في نهاية المطاف، مفتتةً ما كدّسته في ذاكرة القارئ بصرياً. "قال الشاعر بعدما فتح عينيه/ بعدما أبصر نفسه/ في عالم/ لا يقطنه أحد". في هذا السياق، تبدو القصائد كأنها جديلة من الأصوات والتأملات التي فصلها الشاعر في خانات صوتية، لكل منها عنوانها.
علاقة وازن بالطبيعة لا تقل إصغاءً وتنبُّهاً عن تماس الشاعر والموروث المعرفي. انشغاله الدؤوب بها يظهره كما لو أنه يتفحّص هذه الطبيعة لأول مرة. علاقة شعرية تتجاوز افتتانه بها جمالياً ومادياً، وتحاكي سعيه في الفلسفات القديمة، المعاني الأولى. كل ذلك يأتي مصحوباً بحذاقة لغوية في استيلاد قصيدة "نظيفة" سلخ عنها وازن التفخيم وكل زخرفة محتملة، معززاً المجاز وبناء تحوّلات فيه، ما يُظهِّر توقاً للإدهاش والتنويم بالعبارة في الوقت نفسه: "صفحة طويتها/ تليها صفحة أطويها/ إنها الأيام تنقلب إلى وراء/ مثلما تسقط شجرة من ثمرة/ مثلما تشرق شمس من قطرة ضوء/ مثلما ينبجس بحر من صدفة".
لكننا لا نجد في قصيدته نظاماً إيكولوجياً أو فلسفياً أو عاطفياً أو يومياً ثابتاً. ورغم التناغم اللافت بين القصائد، على اختلاف ثيماتها، فإن لكل قصيدة ركيزة مستقلة، إذا صح القول. كل نص يشبه بداية، أو محاولة للبدء من جديد. لم يبتّ الشاعر علاقته بالذاكرة، ولا بالحب والمرأة ولا بالتذكارات الشخصية التي يُنَقّلها معه. كذلك لم يخلص إلى رؤيا نهائية للقصيدة التي تحمل كياناً إشكالياً، وهي في صورتها متوترة، شكل غير مكتمل ولا نهائي، يخاطب في حضوره المؤقت هذا قلقاً وجودياً يثقب ذات الشاعر، سواء تعلّق الأمر بالرفاق ("منادمة")، أو الحبيبة ("مجنون")، أو الذات نفسها ("لاحقاً").
في قصائد أخرى ("كأنهم نائمون"، "البرابرة"، "بلاد"،...)، ينغمس الشاعر بالحاضر والانكسارات الإنسانية التي تحيط بنا. جدليات الموت تستدرجه بقوتها، ليضخّم عدمية ما، أو لينبش الجماليات الأخيرة المتروكة. ثمة علاقة دينامية لا تستكين، أو تهدأ، بين الإنساني ومحيطه. استتباع لإبراز هذا الانصهار بين كينونة غضة مثلاً، أو معيبة بالجروح.
هو آلية تعمل بها مخيّلة وازن الشعرية، عبر تغييب الذات الفردية بذات كلية/ جمعية/ ميتافيزيقية، ما يشي بحاجة ملحّة لاستقراء مستوعب هائل من عناصر صاخبة (البيئة، الكون، المرأة، الموروث الثقافي)، عبر المرور بالنفس وحساسيتها. يشبه ذلك مغازلة لمذهب المتصوفة في الاحتفاء بالغياب والتجهيز له: "امرأة بظل رجل/ رجل بظل امرأة/ أيديهما تتشابك كأصص ورد/ جسداهما يغيبان في صورة".
التزام وازن بهذه الآلية الشعرية لا يحول دون إبرازه سلوكاً تجريبياً في بناء القصيدة، كما في "قصيدة ناقصة"، "عبث" و"لقطة"، ضمن لغة أقرب إلى السرد، لا تهدأ قبل "اكتمال" الشرارة الشعرية.