عبد الله غيث... الفتى الحالم بإحياء ليلة القدر في المسجد الأقصى شهيداً
فاطمة مشعلة
والد عبد الله، الذي ما زال مصدوما من فقدان فلذة كبده، يصف لـ"العربي الجديد" اللحظات الأخيرة قبل انطلاق ابنه إلى رحلته الأخيرة، قائلا: "صبيحة استشهاده كان سعيدا جداً بالذهاب إلى الأقصى، لاعب ابنة عمته الرضيعة وقبّلها مراراً، ولبس أجمل ثيابه، استعدادا لإحياء ليلة القدر في رحاب الأقصى".
وبصبر المحتسب يتابع: "اقترحت عليه الذهاب معنا إلى الأقصى في يوم الجمعة الأخيرة من رمضان، ظناً مني أنه سيكسب أجر أمرين؛ الصلاة في الأقصى يوم جمعة، وإحياء ليلة القدر المباركة، لكنه رحل شهيدا قبل أن يحقق حلمه".
ويتذكر والده، وهو أسير محرر، أن ابنه كان يزوره في سجن عوفر المقام غربي رام الله، "لقد كان عبد الله حينها عنده 12 عاما لكنه جريء، وكم من مرة رشق مركبات شرطة الاحتلال بالحجارة، رغم أن كاميرات السجن كانت ترصده".
طيلة سبع سنوات وعبد الله يتحسّر ألماً على عدم تمكّنه من الدخول إلى الأقصى لإحياء ليلة القدر هناك، فإجراءات الاحتلال تمنع الدخول إلا لمن تجاوز عمره 55 عاماً أو 40 في أفضل حالات ما يسميها الاحتلال "تسهيلات".
وبرغم اصطحاب الوالد فلذة كبده عبد الله بكثرة إلى المدينة المقدسة وهو في سنٍ صغيرة، إلا أن المرة الأخيرة لدخول عبد الله، المسجد الأقصى للصلاة فيه، كانت عام 2016، وإحياء ليلة القدر في الأقصى آخر مرة كانت بصحبة والده وأولاد عمه عام 2012.
صباح أمس الجمعة، خرج لؤي غيث من منزله بصحبة ابنه عبد الله و3 من بناته وابنة وابن أخيه للصلاة في المسجد الأقصى، كانت وجهتم معبر 300 المعبر الرئيسي للدخول إلى القدس عبر بيت لحم، لكن عبد الله أصر على مرافقة ابن عمه الذي لا يسمح له الاحتلال بالدخول من الحاجز، فأوصله والده إلى منطقة السياج الفاصل (أسلاك شائكة) القريبة من حاجز مزموريا في منطقة واد الحمص شرق بيت لحم، ثم وقف ليطمئن أنه اجتاز السياج.
ويوضح الوالد أن عبد الله وبعد اجتيازه للمقطع الأول من السياج فوجئ بجنود الاحتلال يتمركزون على المقطع الثاني منه، حينها حاول الفرار عائداً للوراء مسافة نحو 200 متر، لكن أحد جنود الاحتلال أطلق الرصاص باتجاهه وقنصه ببندقيته، على مرأى من عيني والده. حينها ركض الوالد باتجاه فلذة كبده وصرخ في الجندي قائلا: "لماذا تطلق النار عليه؟"، وما إن وصل الوالد كان عبد الله ممدداً على الأرض ولا يتحرك. "لقد قتلوه، رغم أنه لم يفعل شيئاً، ولم يشكل خطراً عليهم، لقد كان الجنود حينها ينظرون إلينا بشكلٍ مهين جداً".
لؤي غيث، الأسير المحرر الذي قضى في سجون الاحتلال سنوات عديدة، منها حبس إداري بلا تهمة، وبعضها على خلفية تُهم وجهها الاحتلال له، وخاض مع الأسرى الإداريين عام 2014 إضرابهم المفتوح عن الطعام لمدة 63 يوماً، فقد طفله عبد الله شهيدا. هو مؤمن بقدره ومحتسب صابر، لكنه يوجه رسالة للعالم بأن ينظروا للظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، ويقول: "فتى يذهب للصلاة في الأقصى فيُقتل، هل دمنا مستباح لهذه الدرجة؟ لماذا قتلوا ابني بدمٍ بارد؟ ما الذنب الذي اقترفه عبد الله حتى يتم قتله؟ لقد ذهب للصلاة فقط".
أما شقيقة عبد الله غيث، شيماء، فما زالت الصدمة تعقل لسانها وتعلو ملامحها علامات الحزن على مرارة الفقدان، وقد اكتفت بجملة واحدة لدى سؤال "العربي الجديد": "مش قادرة أحكي".
سألنا والده عن أقرب الأصدقاء لابنه عبد الله، فأشار إلى فوزي الجنيدي (18 عاماً)، الفتى الذي اعتدت عليه كتيبة كاملة من جنود الاحتلال الإسرائيلي، في منطقة باب الزاوية في مدينة الخليل، قبل عام ونصف، أثناء خروجه مع محتجين ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. وقد أثارت صور الجنيدي المنقولة لمشهد طفل معصوب العينين ويعتقله ويضربه 23 جنديا ردود فعل واسعة، وحينها استقبله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المجمع الرئاسي في أنقرة.
يقول الجنيدي، لـ"العربي الجديد: "أخبرني عبد الله، بحكم صحبتنا، قبل أسبوع من استشهاده، بنيّته التوجه إلى القدس لإحياء ليلة القدر. كان مصرّا على دخول القدس، سواء سمح له جيش الاحتلال بالدخول أم لا، وأخبرني بأنه (إن سمحوا له كان ذلك، وإن لم يسمحوا سيدخل تهريبا عبر الأسلاك الشائكة أو جدار الفصل العنصري)، ثم عرض عليّ مرافقته، لكني عدت إلى تذكيره بأنني ممنوع أمنياً من دخول المدينة المقدسة".
كعادتهما في كل عام، يقضي فوزي وعبد الله ليلة القدر في مسجدين بحيّهما في مدينة الخليل، إذ يوضح الجنيدي "كنا نُحيي نصف الليلة الأول في مسجد ونُكمل عبادتنا في المسجد الثاني. أنا وعبد الله أصدقاء منذ أكثر من 6 سنوات، بحكم أننا نسكن في الحارة نفسها في منطقة رأس الجورة شمال مدينة الخليل. كنا نتشارك كل شيء، وعندما نتعرض لبعض المواقف نقف بجانب بعضنا. كنا مهتمين جداً بالقضية الفلسطينية، وعند سماعنا مسيرة أو احتجاجا من أجل فلسطين والقضايا الوطنية نكون في المقدمة".
فوزي الجنيدي صدم من استشهاد صديقه عبد الله، وتساءل "فتى يذهب للصلاة في المسجد الأقصى ماذا سيحصل لو مر؟!". ثم يستدرك قائلا: "هذا محتل غاصب لا يُفرّق بين طفل أو شاب أو امرأة أو شيخ، ولا يعرف السلام، فأولوياته ليست للسلام، أولوياته قتل الأطفال. سأفتقد كل شيء برحيل عبد الله، لكن ليس بوسعي سوى أن أدعو له بالرحمة".
اخترقت رصاصات قوات الاحتلال قلب ورئتي عبد الله، فمات حلم طفل في الصف العاشر بالمدرسة الشرعية في مدينة الخليل، إذ كان والده لؤي غيث الذي يملك محلاً لبيع الخزف الشرقي في مدينة الخليل، يطمح إلى تعليم عبد الله الطب بعد إنهائه الثانوية العامة، لقد رحل الحلم من بين أحضان أسرة مكونة من الوالدين وعبد الله وشقيق رضيع اسمه عبد العزيز و7 أخوات.
وما إن انتشر خبر استشهاد عبد الله حتى استذكره رواد مواقع التواصل الاجتماعي حين ضرب شرطيا فلسطينيا، لأن ذلك الشرطي قام بالاعتداء على النساء المشاركات في مظاهرة خرجت في مدينة الخليل قبل نحو عام، احتجاجاً على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني. وفي عصر الجمعة، ووسط حالة من الاستنكار والحزن الشديدين، شيّع الفلسطينيون جثمان الشهيد الطفل عبد الله غيث، الذي كان يحلم بصلاة في المسجد الأقصى، وقتله الاحتلال من دون أن يشكل الطفل خطراً على جنوده.