عباسية رايح جاي

16 يناير 2016

عمل للفنان زهير دباغ

+ الخط -
هناك فصيلة من البؤس جديدة، حلّت على أرواح المصريين، أراها ظاهرة على وجوههم، ولا أعرف كيف أسمّيها. هموم ما تشبه انتكاسة مرض غريب، لكنه يصيب الروح. لا أتكلم عن محمد مرسي، ولا عبد الفتاح السيسي، ولا ثورة، ولا ثورتين، ولا قتل، أو تصفية، ولا عن سجون أو أقبية، أو توحّش سلطة استعادت بعض أنفاسها. ولكن، هذه مجرد قراءة في وجوه أناس عابرين، وأنا عابر مثلهم.
لماذا همد الفرح فجأة في الأرواح، فارتخت ملامح الوجوه على وجيعةٍ ما؟ هل هي وجيعة الوجود المألوفة في كل مكان، وأي مكان، وأنا خصّصت وجيعة الوجوه بمكاني هذا فقط؟ هل أنا انتقيت وجوهاً ما، تعبّر عمّا يجيش فيّ، وأسقطت عليها ما أريد قوله أو تقريره، أم هذه مواجع آخرين غيري، يتألمون مثلي لوطنهم وناسهم، وما آلت اليه الأمور، وخصوصاً أن ملامحهم، وعلامات الغربة والبؤس بتلك الملامح؟
كي أكون منصفاً ومحايداً، لا بد أن تسأل عن تلك الظاهرة أناساً غيري عن الذي حدث، فطوال أعمارنا نمر بخيانات وهزائم وانتصاراتٍ، يتم تشويهها في المهد، ويخرج محتل، ويدخل آخر، وطالما المحتل يشارف القلعة، وتنطلق المدافع، ننسى كل شيء، وطالما يعود الحجيج نرقص، وطالما يزيد النيل نرقص ونغني له. وإن جعنا كنا نأكل حتى القطط والكلاب، كما كتب المقريزي وابن إياس، فما الذي حدث، هذه المرة، كي يتمكن البؤس منا بهذه الدرجة؟
واحد على ظهر الكرسي كتب: (الإذاعة والتلفزيون خاطفاني). هل نحن فعلاً مخطوفون؟ على حد تعبير صاحب الأثر الذي تركه واضحاً وجليّاً على ظهر واحدٍ من كراسي هيئة النقل العام خط العباسية. أنا في ميدان عبده باشا، بعدما حدّقت روحي في منزل فاطمة هانم البخشونجي. نحن نحب الأماكن بمقدار محبة أرواح أصحابها، هل ذلك هو الذي حماني من قسوة البؤس أو الجنون، والغريب أن في (عبده باشا) هلّت عليّ روائح القرنقل، ولا أعرف كيف. كانت تحكي لي عن الفلّ المجوز، وعن وردة ثروت أباظة لها، وهو شاب صغير، من حديقتهم التي يفصلها عن حديقتهم سور مضروب من أوله لآخره بالورد والياسمين، وكانت العباسية تميل طرباً على نقرات كعوب الصبايا، حينما يخرجن من الفيلات للسهر عند الأهل أو الجيران، وعبد الوهاب هناك، كان يحيّرنا ويعذبنا، ولا نستطيع أن نبوح بشيء.
كانت الكآبة تطل عليّ كل آنٍ من الأتوبيس، فتأخذني إلى مساحات أخرى مما حدث لنا. هذه عباسية ملفوفة في حكاية قديمةٍ يحرسها الياسمين والورد، وتلك عباسية أخرى، أعيشها في الأتوبيس، نعيشها من دون أن نكون مرضى محجوزين في العنابر، وبلا صدماتٍ كهربائية، ومن غير أن يزورنا الأهل، لأننا في كامل أهليتنا، ولم نصرخ بعد، ولا نستطيع حتى أن نصرخ، لأننا كلما تألمنا، قالوا لنا: احمدوا الله أننا لسنا سورية أو ليبيا أو اليمن، فنسكت.
سألت نفسي، قبل أن أدخل المقهى، وما الذي سوف أراه في المقهى مختلفاً عن المرات السابقة. الأسئلة الحائرة نفسها، (الخنقة) نفسها التي ليس لها حل، الكليشيهات القديمة نفسها في الأفواه، (خانونا في محمد محمود) أو الحزب الوطني الجديد، أو الإخوان كتبوا نهايتهم، أو تربيطات البرلمان، أو ثورة توفيق عكاشة أو ملعوبة أو أو، حتى فيروز، هي الأخرى، صارت خائنة، فما الجديد في المقهى، حتى لو اخترت مقهى آخر.
في النهاية، لم أدخل المقهى، وارتحت بالفعل في مقهى يجلس فيه عمال صعايدة بالمسامير والشواكيش في حلوان. جلست، لم أتكلم شيئاً، فقط، أبعد عيوني عن كل ما حولي. كانت (عباسية أخرى بالفعل من غير أتوبيس، عباسية ضاحكة وسعيدة، ومن غير أطباء، ولا صدمات كهربائية).
ملحوظة: (كي نخرج من هذه الكآبة، وتلك الخنقة التي نقلتها لكم عن الوضع لدينا، أحلف لكم بالطلاق، كما حلف العضو خالد يوسف، المخرج سابقاً، أن هذا المقال كتب كاملا قبل افتتاح أولى جلسات مجلس الشعب المصري بأربعة أيام، وداخل أتوبيس العباسية – فم الخليج).