لا القوانين الدولية ولا التحذيرات العديدة أثنت الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره الذي نُفذ قبل عام من اليوم بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وذلك بعد إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، مطلقاً مساراً هو الأكثر وضوحاً وفجاجة لتصفية القضية الفلسطينية تمهيداً لإعلان خطة إملاءاته الهادفة فعلياً للقضاء النهائي على وجود دولة فلسطينية والمعروفة بـ"صفقة القرن". بل إن ترامب اختار أيضاً تاريخ 14 مايو/أيار 2018 لافتتاح السفارة رسمياً في القدس، أي قبل يوم واحد من ذكرى النكبة الفلسطينية، موجهاً ضربة جديدة لفلسطين ومقدماً خدمة للاحتلال الإسرائيلي ومخططاته لتصفية كل قضايا الحل النهائي بما في ذلك ما يتعلق بملفات اللاجئين والحدود والمستوطنات والدولة.
أهداف عديدة سعى ترامب لتحقيقها بقراره نقل السفارة، نجح في بعضها فيما فشل في أخرى، فلم ينجح في إقناع دول"كبيرة" أخرى باتخاذ خطوة مماثلة، وفشل في دفع الفلسطينيين إلى تقديم أي تنازلات على الرغم من تصعيد ضغطه عليهم وقطع كل المساعدات لهم، في المقابل مهّد طريق الاحتلال للسعي إلى ضم المستوطنات في الضفة الغربية، وهو المطلب الأساسي الذي بات حاضراً في مشاورات بنيامين نتنياهو مع الأحزاب اليمينية لتشكيل حكومته الجديدة.
وبعد عام على تطبيق قرار نقل السفارة الأميركية، تدل كل المؤشرات على أن هذا القرار وما سبقه من إعلان القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، مثلا تجسيد لاستراتيجية أميركية شاملة تهدف إلى حسم مصير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما يتوافق مع المنطلقات الأيديولوجية والسياسية لقوى اليمين العلماني والديني، التي تشكل الائتلاف الحاكم في تل أبيب.
ويتضح من خلال السلوك الأميركي وما تم تسريبه من معلومات حول اتجاهات موقف البيت الأبيض من الصراع، أن تنفيذ استراتيجية ترامب الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، يمر بثلاث مراحل رئيسية، أولها ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على الفلسطينيين، من خلال تحطيم خطوطهم الحمراء ومحاولة دفعهم للتعايش مع المشاريع الهادفة إلى تصفية قضيتهم، عبر المزاوجة بين الاعتراف بالقدس كعاصمة للاحتلال ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، وفرض عقوبات اقتصادية كبيرة، تمثّلت في التوقف عن الإسهام في موازنة "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا)، ووقف أنشطة وكالة التنمية الأميركية في الأراضي الفلسطينية، والتوقف تماماً عن تقديم أي دعم مالي للمؤسسات المدنية الفلسطينية، سواء كانت تابعة للسلطة الفلسطينية أو للمجتمع المدني.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تجنّبت قطع المساعدات المالية المخصصة للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، من أجل توفير بيئة تسمح بتواصل التنسيق الأمني بين هذه الأجهزة ومخابرات وجيش الاحتلال، والذي يسهم بشكل كبير في تحسين الواقع الأمني لإسرائيل، إلا أن الكونغرس، في المقابل، سنّ قانوناً يسمح برفع دعاوى تعويض أمام المحاكم الأميركية ضد كل دولة أو كيان يحصل على مساعدات مالية أميركية، في حال شارك مواطنون من هذه الدول وتلك الكيانات في عمليات أدت إلى مقتل أو جرح مواطنين أميركيين. وقد دفع سنّ هذا القانون قيادة السلطة الفلسطينية إلى الاعتذار عن تلقي المساعدات الأميركية المخصصة لأجهزتها الأمنية، خشية إجبارها على دفع تعويضات مالية ضخمة بسبب سقوط مستوطنين يحملون الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، قتلى وجرحى في عمليات نفذتها المقاومة داخل الضفة وإسرائيل.
ثاني المراحل الرئيسية لاستراتيجية ترامب، تتمثل في طرح خطة الإملاءات الأميركية المعروفة بـ"صفقة القرن"، والتي يستدل مما سُرب من بنودها، إلى أنها تهدف إلى ضمان المصالح الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، كما يراها اليمين الإسرائيلي. فكل التسريبات أجمعت على تمكين الاحتلال، من ضم التجمّعات الاستيطانية والمستوطنات النائية في الضفة الغربية المحتلة، واحتكاره صلاحيات الأمن والسيطرة على الحدود، وبذلك فإن الكيان الفلسطيني الذي يمكن أن يرى النور في الضفة الغربية إثر تطبيق هذه "الصفقة" لن يتجاوز صيغة الحكم الذاتي.
ثالث المراحل تقوم على استغلال الرفض الفلسطيني المتوقع للصفقة فور الإعلان عنها رسمياً في شهر يونيو/حزيران المقبل كما هو مرجح، في تبرير إقدام الحكومة التي يعكف بنيامين نتنياهو على تشكيلها، على فرض السيادة الإسرائيلية على كل المستوطنات في الضفة الغربية، ليعقب ذلك اعتراف أميركي بهذا الضم، على غرار إقرار واشنطن بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. وقد مهدت الإدارة الأميركية للاعتراف بفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية بشكل صريح. ففي كلمته أمام المؤتمر السنوي، الذي نظمته أخيراً منظمة اللوبي اليهودي الأبرز "أيباك"، قال السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، إن ترامب يدرك الأهمية القصوى للمستوطنات في الضفة الغربية كمركّب أساسي في ضمان الأمن لإسرائيل. من جهته، لمّح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في جلسة استماع عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ قبل نحو ثلاثة أسابيع رداً على سؤال عن موقف الإدارة من إعلان نتنياهو نيته ضم المستوطنات في الضفة إلى إسرائيل، إلى أن الإدارة ستعترف بهذا القرار.
وسبق أن جاهر ترامب قبل نحو عام بأن الهدف من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، يتمثّل في حسم مصير القدس وإخراجها من إطار التفاوض مع السلطة الفلسطينية. ففي أعقاب اللقاء الذي جمعه بنتنياهو على هامش مؤتمر "دافوس"، الذي عُقد بعيد الإعلان عن اعترافه بالقدس كعاصمة لإسرائيل، قال ترامب إن مصير القدس لم يعد مادة للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين.
اقــرأ أيضاً
إلا أن ما لم يكن في حسبان الإدارة الأميركية، كما يبدو، يتمثّل في أن نقل السفارة إلى القدس وجملة المواقف الأخرى التي عبّرت عنها إدارة ترامب، والتي تمثّل إسناداً لتوجهات اليمين الإسرائيلي من الصراع، قد أجّج شهية قوى اليمين التي ستشارك في حكومة نتنياهو الجديدة. فبعض هذه الأحزاب والحركات لا تكتفي بضم التجمّعات الاستيطانية والمستوطنات النائية لإسرائيل، بل تطالب بشكل واضح بضم مناطق "ج"، التي تشكّل أكثر من 60 في المائة من الضفة الغربية. أما حزب "البيت اليهودي"، الذي من المرجح أن يحصل على حقيبتي التعليم والقضاء في الحكومة الجديدة، فيطالب بضم كل الضفة الغربية لإسرائيل وعدم الاكتفاء بمناطق "ج" أو المستوطنات.
ولم تكتف إدارة ترامب بنقل السفارة إلى القدس، بل إنها عمدت إلى الضغط على دول أخرى، تحصل على مساعدات أميركية، من أجل الإقدام على خطوة مماثلة. فقد ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن إدارة ترامب أدت دوراً رئيساً في إقناع غواتيمالا بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وشارك الرئيس الغواتيمالي جيمي موراليس في حفل تدشين السفارة هناك في منتصف مايو/أيار من العام الماضي.
ونتيجة الضغط الأميركي، أقدمت باراغواي على نقل سفارتها إلى القدس في 20 مايو من العام الماضي، وشارك رئيس باراغواي في ذلك الحين هوراسيو كارتيس في حفل نقل السفارة إلى هناك. إلا أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز ماريو عبده بينيتيز، أفضت إلى إلغاء القرار، وأمر بينيتيز بإعادة السفارة إلى تل أبيب مجدداً.
واستغل ترامب اللقاء الأول الذي جمعه في البيت الأبيض بالرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو، وطلب منه الوفاء بتعهده خلال حملته الانتخابية بنقل السفارة البرازيلية إلى القدس. لكن بولسونارو، خشي من التداعيات الاقتصادية لهذه الخطوة واكتفى خلال زيارته لإسرائيل بتدشين ممثلية تجارية برازيلية في القدس المحتلة. وكشفت صحيفة "معاريف" في حينه أنه على هامش مشاركتهما في حفل تنصيب بولسونارو، التقى نتنياهو وبومبيو برئيس هندوراس خوان أورلاندو هيرنانديز وحثاه على نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.
وحاولت إسرائيل توظيف علاقتها الوثيقة بحكومات اليمين في أوروبا الشرقية بشكل خاص من أجل اقناعها بنقل سفاراتها إلى القدس. وقد أقنع نتنياهو رئيسة الحكومة الرومانية فيوريكا دانسيلا بنقل السفارة إلى القدس وعبرت عن تأييدها لهذه الخطوة، إلا أن الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس رفض الأمر، بوصفه المسؤول عن إدارة السياسة الخارجية، ووبّخ دانسيلا، قائلا إنها لا "تفهم تاريخ الصراع حول القدس". كما زعمت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي تسيبي حوطبيلي، بأن إسرائيل تجري اتصالات مع جورجيا للاتفاق على مسار يفضي إلى نقل السفارة الجورجية إلى القدس.
لكن على الرغم من النشاط الدبلوماسي المكثّف الذي تبذله إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية، فإن الرهان على دور الخطوة الأميركية بنقل السفارة إلى القدس في إقناع المزيد من الدول بالاقتداء بالسلوك الأميركي، لم يكن في محله. فقرار نقل السفارة من قبل الولايات المتحدة ودولة هامشية، مثل غواتيمالا، يدل على أن المجتمع الدولي ببلدانه المؤثرة يرفض الخطوة الأميركية بوصفها إجراء أحادي الجانب يجسد تبنياً لموقف اليمين الإسرائيلي وتجاوزاً للقانون الدولي، الذي يعتبر القدس الشرقية أراضي فلسطينية محتلة.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية قد أجمعت على الدور الحاسم الذي أداه السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، وهو يهودي متدين يجاهر بحماسته للمشروع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، وسبق أن رأس جمعية تعنى بجمع التبرعات داخل الولايات المتحدة للمستوطنات في الضفة الغربية والقدس، إلا أن أحد أهم المسوغات التي دفعت ترامب للإقدام على هذه الخطوة هو اعتبار داخلي، يتمثّل في سعيه لاسترضاء التيار الإنجيلي، الذي يمثّل النواة الصلبة لجمهور ناخبيه ومؤيديه، ويستند هذا التيار في دعمه لتهويد القدس واستيطان الضفة الغربية إلى منطلقات دينية.
وأقر فريدمان في مقال نشره الأحد الماضي في صحيفة "يسرائيل هيوم"، المقربة من نتنياهو، بأن الاعتبارات الدينية والتاريخية التي دفعت ترامب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، أكبر من الاعتبارات السياسية، مدعياً أن هذه الخطوة تمثّل اعترافاً بالصلة التي ربطت اليهود بالمدينة منذ 3 آلاف عام.
لكن بخلاف الحماسة التي تعبّر عنها قوى اليمين الإسرائيلي، فإن الكثير من الأوساط الإسرائيلية، وضمنها جنرالات في الاحتياط من الجيش والمخابرات وباحثون وكتاب، تحذر من تداعيات الاستراتيجية السلبية التي تنتهجها الإدارة الأميركية تجاه الصراع. وحذر وزير القضاء الأسبق يوسي بيلين، والقائد الأسبق للقوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، الوزير السابق إفرايم سنيه، من أن استراتيجية ترامب يمكن أن تفضي إلى كارثة أمنية لإسرائيل، على اعتبار أنها تزيد من فرص انهيار السلطة الفلسطينية واشتعال الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية بشكل يمكن أن يجبر تل أبيب على العودة إلى إدارة الأراضي الفلسطينية بشكل مباشر، مع كل ما يترتب عليه الأمر من كلفة سياسية واقتصادية وأمنية. لكن على الرغم من هذه التحذيرات، إلا أن قوى اليمين الحاكم في إسرائيل تبدو مصممة على استغلال الفرص التي مثلها صعود ترامب للحكم ومحاولة حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بما يتوافق مع منطلقاتها الأيديولوجية.
اقــرأ أيضاً
ويتضح من خلال السلوك الأميركي وما تم تسريبه من معلومات حول اتجاهات موقف البيت الأبيض من الصراع، أن تنفيذ استراتيجية ترامب الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، يمر بثلاث مراحل رئيسية، أولها ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على الفلسطينيين، من خلال تحطيم خطوطهم الحمراء ومحاولة دفعهم للتعايش مع المشاريع الهادفة إلى تصفية قضيتهم، عبر المزاوجة بين الاعتراف بالقدس كعاصمة للاحتلال ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، وفرض عقوبات اقتصادية كبيرة، تمثّلت في التوقف عن الإسهام في موازنة "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا)، ووقف أنشطة وكالة التنمية الأميركية في الأراضي الفلسطينية، والتوقف تماماً عن تقديم أي دعم مالي للمؤسسات المدنية الفلسطينية، سواء كانت تابعة للسلطة الفلسطينية أو للمجتمع المدني.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تجنّبت قطع المساعدات المالية المخصصة للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، من أجل توفير بيئة تسمح بتواصل التنسيق الأمني بين هذه الأجهزة ومخابرات وجيش الاحتلال، والذي يسهم بشكل كبير في تحسين الواقع الأمني لإسرائيل، إلا أن الكونغرس، في المقابل، سنّ قانوناً يسمح برفع دعاوى تعويض أمام المحاكم الأميركية ضد كل دولة أو كيان يحصل على مساعدات مالية أميركية، في حال شارك مواطنون من هذه الدول وتلك الكيانات في عمليات أدت إلى مقتل أو جرح مواطنين أميركيين. وقد دفع سنّ هذا القانون قيادة السلطة الفلسطينية إلى الاعتذار عن تلقي المساعدات الأميركية المخصصة لأجهزتها الأمنية، خشية إجبارها على دفع تعويضات مالية ضخمة بسبب سقوط مستوطنين يحملون الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، قتلى وجرحى في عمليات نفذتها المقاومة داخل الضفة وإسرائيل.
ثاني المراحل الرئيسية لاستراتيجية ترامب، تتمثل في طرح خطة الإملاءات الأميركية المعروفة بـ"صفقة القرن"، والتي يستدل مما سُرب من بنودها، إلى أنها تهدف إلى ضمان المصالح الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، كما يراها اليمين الإسرائيلي. فكل التسريبات أجمعت على تمكين الاحتلال، من ضم التجمّعات الاستيطانية والمستوطنات النائية في الضفة الغربية المحتلة، واحتكاره صلاحيات الأمن والسيطرة على الحدود، وبذلك فإن الكيان الفلسطيني الذي يمكن أن يرى النور في الضفة الغربية إثر تطبيق هذه "الصفقة" لن يتجاوز صيغة الحكم الذاتي.
وسبق أن جاهر ترامب قبل نحو عام بأن الهدف من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، يتمثّل في حسم مصير القدس وإخراجها من إطار التفاوض مع السلطة الفلسطينية. ففي أعقاب اللقاء الذي جمعه بنتنياهو على هامش مؤتمر "دافوس"، الذي عُقد بعيد الإعلان عن اعترافه بالقدس كعاصمة لإسرائيل، قال ترامب إن مصير القدس لم يعد مادة للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين.
إلا أن ما لم يكن في حسبان الإدارة الأميركية، كما يبدو، يتمثّل في أن نقل السفارة إلى القدس وجملة المواقف الأخرى التي عبّرت عنها إدارة ترامب، والتي تمثّل إسناداً لتوجهات اليمين الإسرائيلي من الصراع، قد أجّج شهية قوى اليمين التي ستشارك في حكومة نتنياهو الجديدة. فبعض هذه الأحزاب والحركات لا تكتفي بضم التجمّعات الاستيطانية والمستوطنات النائية لإسرائيل، بل تطالب بشكل واضح بضم مناطق "ج"، التي تشكّل أكثر من 60 في المائة من الضفة الغربية. أما حزب "البيت اليهودي"، الذي من المرجح أن يحصل على حقيبتي التعليم والقضاء في الحكومة الجديدة، فيطالب بضم كل الضفة الغربية لإسرائيل وعدم الاكتفاء بمناطق "ج" أو المستوطنات.
ولم تكتف إدارة ترامب بنقل السفارة إلى القدس، بل إنها عمدت إلى الضغط على دول أخرى، تحصل على مساعدات أميركية، من أجل الإقدام على خطوة مماثلة. فقد ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن إدارة ترامب أدت دوراً رئيساً في إقناع غواتيمالا بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وشارك الرئيس الغواتيمالي جيمي موراليس في حفل تدشين السفارة هناك في منتصف مايو/أيار من العام الماضي.
ونتيجة الضغط الأميركي، أقدمت باراغواي على نقل سفارتها إلى القدس في 20 مايو من العام الماضي، وشارك رئيس باراغواي في ذلك الحين هوراسيو كارتيس في حفل نقل السفارة إلى هناك. إلا أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز ماريو عبده بينيتيز، أفضت إلى إلغاء القرار، وأمر بينيتيز بإعادة السفارة إلى تل أبيب مجدداً.
واستغل ترامب اللقاء الأول الذي جمعه في البيت الأبيض بالرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو، وطلب منه الوفاء بتعهده خلال حملته الانتخابية بنقل السفارة البرازيلية إلى القدس. لكن بولسونارو، خشي من التداعيات الاقتصادية لهذه الخطوة واكتفى خلال زيارته لإسرائيل بتدشين ممثلية تجارية برازيلية في القدس المحتلة. وكشفت صحيفة "معاريف" في حينه أنه على هامش مشاركتهما في حفل تنصيب بولسونارو، التقى نتنياهو وبومبيو برئيس هندوراس خوان أورلاندو هيرنانديز وحثاه على نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.
وحاولت إسرائيل توظيف علاقتها الوثيقة بحكومات اليمين في أوروبا الشرقية بشكل خاص من أجل اقناعها بنقل سفاراتها إلى القدس. وقد أقنع نتنياهو رئيسة الحكومة الرومانية فيوريكا دانسيلا بنقل السفارة إلى القدس وعبرت عن تأييدها لهذه الخطوة، إلا أن الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس رفض الأمر، بوصفه المسؤول عن إدارة السياسة الخارجية، ووبّخ دانسيلا، قائلا إنها لا "تفهم تاريخ الصراع حول القدس". كما زعمت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي تسيبي حوطبيلي، بأن إسرائيل تجري اتصالات مع جورجيا للاتفاق على مسار يفضي إلى نقل السفارة الجورجية إلى القدس.
لكن على الرغم من النشاط الدبلوماسي المكثّف الذي تبذله إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية، فإن الرهان على دور الخطوة الأميركية بنقل السفارة إلى القدس في إقناع المزيد من الدول بالاقتداء بالسلوك الأميركي، لم يكن في محله. فقرار نقل السفارة من قبل الولايات المتحدة ودولة هامشية، مثل غواتيمالا، يدل على أن المجتمع الدولي ببلدانه المؤثرة يرفض الخطوة الأميركية بوصفها إجراء أحادي الجانب يجسد تبنياً لموقف اليمين الإسرائيلي وتجاوزاً للقانون الدولي، الذي يعتبر القدس الشرقية أراضي فلسطينية محتلة.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية قد أجمعت على الدور الحاسم الذي أداه السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، وهو يهودي متدين يجاهر بحماسته للمشروع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، وسبق أن رأس جمعية تعنى بجمع التبرعات داخل الولايات المتحدة للمستوطنات في الضفة الغربية والقدس، إلا أن أحد أهم المسوغات التي دفعت ترامب للإقدام على هذه الخطوة هو اعتبار داخلي، يتمثّل في سعيه لاسترضاء التيار الإنجيلي، الذي يمثّل النواة الصلبة لجمهور ناخبيه ومؤيديه، ويستند هذا التيار في دعمه لتهويد القدس واستيطان الضفة الغربية إلى منطلقات دينية.
وأقر فريدمان في مقال نشره الأحد الماضي في صحيفة "يسرائيل هيوم"، المقربة من نتنياهو، بأن الاعتبارات الدينية والتاريخية التي دفعت ترامب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، أكبر من الاعتبارات السياسية، مدعياً أن هذه الخطوة تمثّل اعترافاً بالصلة التي ربطت اليهود بالمدينة منذ 3 آلاف عام.