عام الباصات الخضراء للتهجير السوري والتغيير الديمغرافي

15 مارس 2017
006AB614-AEC9-4517-9887-B5F0F01A2FB2
+ الخط -
بين 15 مارس/آذار 2011 و15 مارس 2017، 6 أعوام من عمر الثورة السورية، مليئة بالتحولات الدموية، وتوالي دفع الأثمان السياسية والعسكرية والإنسانية من قبل حاضنة الثورة. لهذا السبب كان متوقعاً أن يشكل عام 2016 امتداداً لما سبقه من أعوام الثورة، تحديداً لجهة مشهد المأساة الإنسانية التي تواصلت وازدادت حدة، واستمرار تحويل البلاد إلى مسرح تنافس إقليمي ودولي، وميدان صراع إرادات يدفع المدنيون ثمنه القاسي، قتلاً، وتهجيراً. ولعل المصطلحات التي استخدمها المفوض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة زيد رعد الحسين، أمس الثلاثاء، في توصيفه للوضع في سورية تلخص جزءاً من حجم المأساة بقوله إن الوضع في سورية "الكارثة الأسوأ من صنع البشر" منذ الحرب العالمية الثانية، وإن البلاد تحولت إلى "غرفة تعذيب ومكان للرعب الوحشي وعدم الإنصاف المطلق". لكنها توصيفات لا تحجب مسؤولية المجتمع الدولي عن استمرار المأساة السورية بمختلف فصولها، إذ بينما يتسلّح النظام السوري، بغطاء روسي إيراني علني في عمليات القتل والتدمير ورفض الحل السلمي والتعنت في جولات المفاوضات من جنيف إلى أستانة، فإنه يعتمد ويراهن، في أقل تقدير، على تواطؤ غير علني يشارك فيه "المجتمع الدولي" الصامت و/أو العاجز، بينما يمعن النظام في سياسة التدمير والانتقام وجعل الشعب يدفع ثمن قراره برفض النظام.



وقد حول النظام السوري عام 2016، إلى عام التهجير والتغيير الديمغرافي لأبرز المناطق السورية التي تؤيد الثورة، ضمن مخطط يهدف لتفريغ مناطق كاملة في دمشق وريفها، وفي حمص وريفها، وفي مدينة حلب من أهلها، في مسعى لتغيير هوية سورية، وراهنها، ومستقبلها. مشاهد السوريين وهم يصعدون "الباصات الخضر" تنقلهم إلى شمال البلاد، كانت كفيله لتلخيص ما يعده النظام وحلفاؤه في ظل صمت دولي هو أقرب للرضى الضمني عما يرتكبه النظام من عمليات تهجير على الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة أكدت أن عمليات التهجير، وما جرى في حلب تعادل "جريمة حرب للتهجير القسري". واتخذ النظام من عمليات يصفها بـ"المصالحة" و"التسوية" لتكون غطاء لتهجير أكبر قدر من السوريين، بعد استخدام مختلف الأسلحة، بما في ذلك "سلاح الحصار والتجويع" الذي لم تستطع المعارضة السورية المسلحة مقاومته طويلاً، فاضطرت للموافقة على تسويات مجحفة فتحت الباب واسعاً أمام التهجير.

وكانت عملية تهجير مدينة داريا في خاصرة العاصمة دمشق الجنوبية الغربية، أبرز عمليات التهجير التي طغت خلال العام السادس للثورة. وأصبحت المدينة، التي حوصرت لأعوام عدة بشكل محكم، اليوم خالية من أهلها الذين غادروا إلى الشمال السوري. في أواخر أغسطس/آب من عام 2016 بدأت أولى قوافل المهجرين قسرياً تخرج من مدينة داريا التي تعرضت إلى أكبر عدد من المجازر في العام الأول من الثورة لكسر ارادتها، لكن مقاتليها قرروا السير في طريق الثورة حتى آخره، فقاوموا قوات النظام وحزب الله ومليشيات أخرى طيلة سنوات موقعين بها خسائر فادحة. وإلى الغرب من داريا كانت مدينة معضمية الشام (5 كيلومترات غربي دمشق) هي الأخرى على موعد مع التهجير، وإن كان أخف وطأة. في التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي غادرها نحو ثلاثة آلاف من سكانها، فيما بقي الآخرون تحت سطوة، وهيمنة قوات النظام التي تمارس سياسة انتقامية بحق المدينة التي ظلت وفية للثورة طيلة سنوات على الرغم من محنة الحصار والتجويع والقصف بكل صنوف الأسلحة المحرمة دولياً. ولم يتوقف قطار التهجير الممنهج عند داريا ومعضمية الشام بل انتقل إلى مناطق أخرى في ريف دمشق أنهكها النظام حصاراً وجوعاً وقصفاً، منها مخيم خان الشيخ للاجئين الفلسطينيين وبلدات أخرى في ريف دمشق الغربي. وخرج آلاف المدنيين من المخيم والبلدات المحيطة به منها زاكية، والمقيلبية، وطيبة، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الفائت إثر حملة عسكرية واسعة النطاق قامت بها قوات النظام، ومليشيات طائفية دأب إعلام النظام على وصفها بـ"القوات الرديفة"، وأدت إلى مقتل عدد كبير من المدنيين ما دفع مقاتلي المعارضة إلى التسليم والخروج بأسلحة خفيفة. وذكرت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية" أنه تم تهجير نحو ألفي لاجئ فلسطيني من مخيم خان الشيح إلى شمال سورية بينهم ناشطون إغاثيون، وإعلاميون. من جهتها، ذكرت مصادر في المعارضة أن التهجير شمل نحو ثلاثة آلاف سوري وفلسطيني، أصرّ النظام على توجههم إلى محافظة إدلب رافضاً خروجهم باتجاه جنوب سورية. وفي منتصف أكتوبر بدأ عدد من أهالي مدينتي قدسيا والهامة رحلة التهجير القسري نحو شمال البلاد إثر اتفاق مع النظام قضى بخروج مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم بعد سنوات كانت فيها المدينتان شوكتين في خاصرة النظام نظراً لأهميتهما الاستراتيجية في شمال غربي العاصمة دمشق غير بعيدتين عن قصر تشرين المتموضع فوق جبل المزة الشهير. وعانى أبناء المدينتين منذ الأشهر الأولى للثورة من عمليات قصف مستمرة من الموالين المقيمين بالقرب منهما، كما تعرض عدد من شباب قدسيا والهامة لعمليات اعتقال واسعة، وتصفيات فورية من قبل شبيحة النظام.



في العام السادس من الثورة، كان من الواضح أن النظام اعتمد استراتيجية تهجير كل المناطق الثائرة المحيطة بالعاصمة لـ"تأمينها"، فهجّر في بداية ديسمبر/كانون الأول الفائت أكثر من ألفين من أهالي مدينة التل شمال العاصمة دمشق.
في أواخر العام الفائت خيّر بشار الأسد وحلفاؤه عشرات آلاف المحاصرين في أحياء حلب الشرقية بين الموت قصفاً وجوعاً وبرداً، وبين الخروج من بيوتهم إلى المجهول في أكبر عملية تهجير تشهدها سورية. وبدأت في منتصف الشهر الأخير من العام الفائت عمليات واسعة النطاق لتهجير أهل حلب ثاني أكبر المدن السورية إلى محافظة دلب القريبة في مشاهد اختصرت مأساة السوريين الذين تُركوا في مواجهة آلات موت قتلت عشرات آلاف الحلبيين على مدى ثلاث سنوات، حيث كانت حلب أكثر المدن السورية تعرضاً لحملات البراميل المتفجرة التي كانت هجرّت أواخر عام 2013 نحو مليون حلبي. على ثلاث دفعات، خرج عشرات آلاف الحلبيين من مدينتهم لتبدأ بعد ذلك عمليات تعفيش المنازل لطمس ذاكرة مدينة تعد من أقدم المدن في العالم، وأكثرها رسوخاً في الحضارة الإنسانية، لكنها تعرضت لعملية تدمير ممنهج لمعالمها الأساسية لمحاولة تأكيد "نصر متوحش" تحت غطاء ناري روسي غير مسبوق، وغطاء دولي عنوانه الصمت.

ووسط جميع هذه التحولات، وقّعت فصائل المعارضة السورية المسلحة، في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، اتفاقاً لوقف إطلاق النار مع النظام بضمانة تركية روسية عرف بـ"اتفاق أنقرة"، في مسعى من هذه الفصائل لإيقاف عمليات تهجير تجرّف الحاضنة الاجتماعية للثورة، في ظل مؤشرات على نيّة النظام توطين عناصر المليشيات الطائفية الوافدين من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان في سورية لتغيير التركيبة السكانية في سورية. على الرغم من الاتفاق، إلا أن لنظام، وإيران، وبغطاء روسي، ضربا اتفاق أنقرة، المدعوم من مجلس الأمن الدولي عرض الحائط، فلم يوقفا حملة عسكرية على قرى تسيطر عليها المعارضة في منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق، انتهت أواخر يناير الفائت بتهجير آلاف المدنيين من قرى الوادي إلى محافظة إدلب، ثم تبعتها عملية تهجير لعدد من سكان منطقة سرغايا القريبة من وادي بردى. كما قام حزب الله اللبناني المسيطر على المنطقة القريبة من الحدود اللبنانية بعمليات مماثلة في الزبداني وبقين ومضايا في مسعى واضح لإجراء أكبر عملية تهجير، وتغيير ديمغرافي شمال غربي دمشق تخدم مشروعه في السيطرة على المنطقة المحاذية للحدود مع لبنان من القصير مروراً بالقلمون وانتهاء بوادي بردى.
وقبيل أيام من انتهاء العام السادس للثورة، جرت عملية تهجير واسعة لم تولها وسائل الإعلام أهمية كافية في ريف حلب الشرقي، إثر تقدم قوات النظام، وحزب الله، ومليشيات مرتبطة بالنظام في قرى وبلدات انسحب منها تنظيم "الدولة الإسلامية"، في ظل حديث عن عمليات تصفية واسعة لمدنيين لم يستطيعوا تأمين طريق خروج من قراهم. 

وفي اليوم الأخير من العام السادس للثورة، حقق النظام وحلفاؤه ما سعوا إليه وهو فرض السيطرة المطلقة على مدينة حمص (وسط البلاد) والتي تعد أهم المدن السورية لجهة الأهمية الاستراتيجية كونها عقدة الوصل بين أرجاء البلاد الأربعة. واضطرت المعارضة السورية المسلحة إلى توقيع اتفاق "مصالحة" مع النظام تحت رعاية روسية، يقضي بخروج عدد كبير من سكان حي الوعر في حمص آخر معقل للمعارضة في المدينة التي كانت تعد عاصمة الثورة، ويُطلق عليها لقب "أم الشهداء"، لينهي العام السادس من الثورة على وقع عمليات تهجير.
دلالات

ذات صلة

الصورة
من مجلس العزاء بالشهيد يحيى السنوار في إدلب (العربي الجديد)

سياسة

أقيم في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي وفي مدينة إدلب، شمال غربي سورية، مجلسا عزاء لرئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي استشهد الأربعاء الماضي.
الصورة
غارات روسية على ريف إدلب شمال غرب سورية (منصة إكس)

سياسة

 قُتل مدني وأصيب 8 آخرون مساء اليوم الثلاثاء جراء قصف مدفعي من مناطق سيطرة قوات النظام السوري استهدف مدينة الأتارب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة
الصورة
قبور الموتى للبيع في سورية / 6 فبراير 2024 (Getty)

اقتصاد

تزداد أعباء معيشة السوريين بواقع ارتفاع الأسعار الذي زاد عن 30% خلال الشهر الأخير، حتى أن بعض السوريين لجأوا لبيع قبور ذويهم المتوارثة ليدفنوا فيها.
الصورة
قوات روسية في درعا البلد، 2021 (سام حريري/فرانس برس)

سياسة

لا حلّ للأزمة السورية بعد تسع سنوات من عمر التدخل الروسي في سورية الذي بدأ في 2015، وقد تكون نقطة الضعف الأكبر لموسكو في هذا البلد.