بين 15 مارس/آذار 2011 و15 مارس 2017، 6 أعوام من عمر الثورة السورية، مليئة بالتحولات الدموية، وتوالي دفع الأثمان السياسية والعسكرية والإنسانية من قبل حاضنة الثورة. لهذا السبب كان متوقعاً أن يشكل عام 2016 امتداداً لما سبقه من أعوام الثورة، تحديداً لجهة مشهد المأساة الإنسانية التي تواصلت وازدادت حدة، واستمرار تحويل البلاد إلى مسرح تنافس إقليمي ودولي، وميدان صراع إرادات يدفع المدنيون ثمنه القاسي، قتلاً، وتهجيراً. ولعل المصطلحات التي استخدمها المفوض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة زيد رعد الحسين، أمس الثلاثاء، في توصيفه للوضع في سورية تلخص جزءاً من حجم المأساة بقوله إن الوضع في سورية "الكارثة الأسوأ من صنع البشر" منذ الحرب العالمية الثانية، وإن البلاد تحولت إلى "غرفة تعذيب ومكان للرعب الوحشي وعدم الإنصاف المطلق". لكنها توصيفات لا تحجب مسؤولية المجتمع الدولي عن استمرار المأساة السورية بمختلف فصولها، إذ بينما يتسلّح النظام السوري، بغطاء روسي إيراني علني في عمليات القتل والتدمير ورفض الحل السلمي والتعنت في جولات المفاوضات من جنيف إلى أستانة، فإنه يعتمد ويراهن، في أقل تقدير، على تواطؤ غير علني يشارك فيه "المجتمع الدولي" الصامت و/أو العاجز، بينما يمعن النظام في سياسة التدمير والانتقام وجعل الشعب يدفع ثمن قراره برفض النظام.
اقــرأ أيضاً
وكانت عملية تهجير مدينة داريا في خاصرة العاصمة دمشق الجنوبية الغربية، أبرز عمليات التهجير التي طغت خلال العام السادس للثورة. وأصبحت المدينة، التي حوصرت لأعوام عدة بشكل محكم، اليوم خالية من أهلها الذين غادروا إلى الشمال السوري. في أواخر أغسطس/آب من عام 2016 بدأت أولى قوافل المهجرين قسرياً تخرج من مدينة داريا التي تعرضت إلى أكبر عدد من المجازر في العام الأول من الثورة لكسر ارادتها، لكن مقاتليها قرروا السير في طريق الثورة حتى آخره، فقاوموا قوات النظام وحزب الله ومليشيات أخرى طيلة سنوات موقعين بها خسائر فادحة. وإلى الغرب من داريا كانت مدينة معضمية الشام (5 كيلومترات غربي دمشق) هي الأخرى على موعد مع التهجير، وإن كان أخف وطأة. في التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي غادرها نحو ثلاثة آلاف من سكانها، فيما بقي الآخرون تحت سطوة، وهيمنة قوات النظام التي تمارس سياسة انتقامية بحق المدينة التي ظلت وفية للثورة طيلة سنوات على الرغم من محنة الحصار والتجويع والقصف بكل صنوف الأسلحة المحرمة دولياً. ولم يتوقف قطار التهجير الممنهج عند داريا ومعضمية الشام بل انتقل إلى مناطق أخرى في ريف دمشق أنهكها النظام حصاراً وجوعاً وقصفاً، منها مخيم خان الشيخ للاجئين الفلسطينيين وبلدات أخرى في ريف دمشق الغربي. وخرج آلاف المدنيين من المخيم والبلدات المحيطة به منها زاكية، والمقيلبية، وطيبة، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الفائت إثر حملة عسكرية واسعة النطاق قامت بها قوات النظام، ومليشيات طائفية دأب إعلام النظام على وصفها بـ"القوات الرديفة"، وأدت إلى مقتل عدد كبير من المدنيين ما دفع مقاتلي المعارضة إلى التسليم والخروج بأسلحة خفيفة. وذكرت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية" أنه تم تهجير نحو ألفي لاجئ فلسطيني من مخيم خان الشيح إلى شمال سورية بينهم ناشطون إغاثيون، وإعلاميون. من جهتها، ذكرت مصادر في المعارضة أن التهجير شمل نحو ثلاثة آلاف سوري وفلسطيني، أصرّ النظام على توجههم إلى محافظة إدلب رافضاً خروجهم باتجاه جنوب سورية. وفي منتصف أكتوبر بدأ عدد من أهالي مدينتي قدسيا والهامة رحلة التهجير القسري نحو شمال البلاد إثر اتفاق مع النظام قضى بخروج مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم بعد سنوات كانت فيها المدينتان شوكتين في خاصرة النظام نظراً لأهميتهما الاستراتيجية في شمال غربي العاصمة دمشق غير بعيدتين عن قصر تشرين المتموضع فوق جبل المزة الشهير. وعانى أبناء المدينتين منذ الأشهر الأولى للثورة من عمليات قصف مستمرة من الموالين المقيمين بالقرب منهما، كما تعرض عدد من شباب قدسيا والهامة لعمليات اعتقال واسعة، وتصفيات فورية من قبل شبيحة النظام.
في العام السادس من الثورة، كان من الواضح أن النظام اعتمد استراتيجية تهجير كل المناطق الثائرة المحيطة بالعاصمة لـ"تأمينها"، فهجّر في بداية ديسمبر/كانون الأول الفائت أكثر من ألفين من أهالي مدينة التل شمال العاصمة دمشق.
ووسط جميع هذه التحولات، وقّعت فصائل المعارضة السورية المسلحة، في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، اتفاقاً لوقف إطلاق النار مع النظام بضمانة تركية روسية عرف بـ"اتفاق أنقرة"، في مسعى من هذه الفصائل لإيقاف عمليات تهجير تجرّف الحاضنة الاجتماعية للثورة، في ظل مؤشرات على نيّة النظام توطين عناصر المليشيات الطائفية الوافدين من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان في سورية لتغيير التركيبة السكانية في سورية. على الرغم من الاتفاق، إلا أن لنظام، وإيران، وبغطاء روسي، ضربا اتفاق أنقرة، المدعوم من مجلس الأمن الدولي عرض الحائط، فلم يوقفا حملة عسكرية على قرى تسيطر عليها المعارضة في منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق، انتهت أواخر يناير الفائت بتهجير آلاف المدنيين من قرى الوادي إلى محافظة إدلب، ثم تبعتها عملية تهجير لعدد من سكان منطقة سرغايا القريبة من وادي بردى. كما قام حزب الله اللبناني المسيطر على المنطقة القريبة من الحدود اللبنانية بعمليات مماثلة في الزبداني وبقين ومضايا في مسعى واضح لإجراء أكبر عملية تهجير، وتغيير ديمغرافي شمال غربي دمشق تخدم مشروعه في السيطرة على المنطقة المحاذية للحدود مع لبنان من القصير مروراً بالقلمون وانتهاء بوادي بردى.
وفي اليوم الأخير من العام السادس للثورة، حقق النظام وحلفاؤه ما سعوا إليه وهو فرض السيطرة المطلقة على مدينة حمص (وسط البلاد) والتي تعد أهم المدن السورية لجهة الأهمية الاستراتيجية كونها عقدة الوصل بين أرجاء البلاد الأربعة. واضطرت المعارضة السورية المسلحة إلى توقيع اتفاق "مصالحة" مع النظام تحت رعاية روسية، يقضي بخروج عدد كبير من سكان حي الوعر في حمص آخر معقل للمعارضة في المدينة التي كانت تعد عاصمة الثورة، ويُطلق عليها لقب "أم الشهداء"، لينهي العام السادس من الثورة على وقع عمليات تهجير.