عالم مدام عفت

14 يوليو 2015

"فيسبوك" .. ساحة مدام عفت للحشد للسيسي

+ الخط -
لا تعرف مدام عفت الحلول الوسط، ولا تحب الطبطبة، تعشق عبد الفتاح السيسي أكثر من نور عينيها، لكنها غاضبة منه جداً، لأنه ليس حاسما بما يكفي، هي لا تدري ما الذي يؤخره عن تهجير سكان سيناء، ونسفها عن بكرة أبيها، ولأنها تعيذه من أن تكون يده مرتعشة، ترجح أنه ربما كان قلقاً على مصر من رد فعل القوى الدولية المتآمرة. لذلك، قررت مدرسة اللغة الفرنسية خريجة الكلية المرموقة، والتي ناهزت الخمسين من عمرها، تحويل حسابها على "فيسبوك" إلى (ساحة شعبية) لحشد مؤيدي السيسي، كي يقوموا بتشجيعه على اتخاذ قرارات جريئة، كتهجير سكان سيناء ونسفها، ثم بنائها من أول وجديد، وطرد الفلسطينيين من مصر، واحتلال قطاع غزة وعدم الخروج منه إلا بعد تطهير آخر "حمساوي" يسكنه.
على بعد سنتيمترات من بوست مليء بالأدعية والابتهالات، تنشر مدام عفت صورة لأربع شخصيات إعلامية، بعضها يعتبره الثوار أصلاً من فلول عهد مبارك، داعية عليهم بحرقة أن ينتقم ربنا منهم "ومن كل الخونة اللي خربوا مصر"، فيعلق صديقها الأستاذ حسين: "عندك واحد خو.. والثاني معر.. وواحدة بتستضيف الخونة والمتآمرين وواحدة هجين من كلبة بلدي وخنزير بري"، فلا تذكره مدام عفت بحرمانية السب والقذف، خصوصا في نهار رمضان، بل ترسل إليه "إصبع لايك عملاق"، مصحوبا بعبارة "جبت من الآخر".
ليس عند مدام عفت "يامّه ارحميني"، فغربال وطنيتها شديد الضيق، ولا أحد ينفذ منه بسهولة، حتى لو كانت له أياد سوداء في نشر وباء الفاشية في مصر، وحتى لو كان قد سبق لها أن أشادت بصحيفته أو برنامجه، لأنهما يساهمان في تطهير مصر من "خونة الإخوان والثورجية والطابور الخامس"، ستنسى مدام عفت ذلك في وقت الشدة، لتطالب بسحقه، من دون أن تشفع له خدماته الوطنية، ودوره البارز في تشكيل رؤيتها للعالم.
عقب يوم رمضاني، جرت فيه اشتباكات حامية مع إرهابيي سيناء، أعادت مدام عفت، وهي في أقصى درجات غضبها، نشر خبر من جريدة كانت تشيد بوطنيتها دائما، كان نص عنوانه كالآتي: (عضو بولاية سيناء قبل حادث سيناء بثلاث ساعات: مجاهدونا يسطرون الملاحم)، لم تنتبه مدام عفت إلى مقصد الصحيفة من نشر الخبر، بل اعتبرته ترويجاً للشائعات، يشكل خيانة وطنية، توجب إعدام رئيس تحرير الصحيفة ومالكها، لتتوالى اللايكات والشيرات والكومنتات المؤيدة لاقتراحها، ويتحول الخبر الساخر من الإرهابيين إلى قضية أمن قومي، تقض مضاجع أفراد عالمها الافتراضي الذين تصادف أنهم يضعون جميعا صور السيسي رمزاً لحساباتهم الشخصية، مستبدلين به ذواتهم، ليبدو وأنت تقرأ تعليقاتهم، أنك تشاهد السيسي وهو يغني ويرد على نفسه، فيقترح تارة حرق الاثنين لعلاقتهما الخفية بمحمد البرادعي، ويقترح، تارة أخرى، الاكتفاء برميهما في السجن "لحد ما نفوق لهم".
لمدام عفت بعد إقليمي وآخر دولي، فهي، مثلاً، تستشهد بمراسل القناة العاشرة الإسرائيلية المنبهر بأداء الجيش المصري، ثم تشن هجوما عنيفا على الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي تنشر، من حين إلى آخر، صورا حزينة له، مصحوبة بتعليقات مثل "ماكنتش أعرف يا مصريين إنكم شعب عنيد الشغل كله باظ"، وتتبع ذلك بتحليلات تربط بين أوباما وداعش شخصيا، ومعلومات سرية خاصة تمد بها متابعيها حصريا، كان آخرها كشفها عن اعتكاف وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل، في باريس، منذ يوم 30 يونيو، وحتى اليوم الذي اطمأن فيه إلى وصول مصر إلى بر الأمان، من دون أن تشرح لسكان عالمها، سر اختيار الراحل باريس بالذات، دون غيرها من عواصم العالم الطرية، ليطمئن منها على مصر.
لمدام عفت أيضا مصادر تاريخية خاصة، تجعلها تنفرد برواية قصة عن سيدنا نوح الذي ركب السفينة، وطاف الأرض عقب الطوفان، ليخرج إليه في كل بلدة، الملائكة الذين يحرسونها ليسلموا عليه، فلما مر على مصر، لم يخرج إليه أحد، فتعجب من ذلك، لينزل عليه الوحي قائلا "لا تعجب فإن كل بلد جعلت لها ملائكة تحرسها إلا مصر فإني توليت بنفسي حراستها"، وحين تسألها مدام ميمي منبهرة "الله، جبتيها منين القصة دي يا فوفة"، تكتفي بالرد عليها باقتضاب "يا حبيبتي ده من ذوقك"، فليس من الحصافة أبداً أن تكشف مدام عفت، الشهيرة بفوفة، عن مصادرها السماوية والأرضية.
للأسف، لن يكون خروج مدام عفت من أسر عالمها سهلا، سيدفع ثمنه الباهظ الجميع، من محبي مدام عفت ومن كارهيها، لأن مدام عفت لم تعد شخصا مضللا وحيدا، بل صارت أسلوب حياة للملايين من أبناء شعب "عقله في أذنيه"، شعب منكوب تعلق بقشة مهلكة، اسمها عبد الفتاح السيسي.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.