عالم أبو جهاد: تاريخ البشر المُهمل

24 سبتمبر 2014
تجارة التحف فنّ أوّلاً (زكريا جابر/ العربي الجديد)
+ الخط -
"أبو جهاد، فلسطيني، وُلدتُ في لبنان عام 1951، متزوّج ولديّ ولدان". هكذا يقدّم أبو جهاد نفسه، وبهذا اللقب يعرفه الناس، التجّار وسكّان منطقة الباشورة - سوق الانتيكا، حيث محلّه.
بعد زواجه، قرّر اختيار مهنة ليعيل عائلته، مما يعني أنّ "أبو جهاد" لم يمارس أيّ مهنة قبل ذلك الوقت. فما السبب؟ يجيب: "كنت عربيّاً". عربيٌ! وهل العروبة مهنة أو سببٌ يمنعه عن العمل! يضحك أبو جهاد، ويختصر مهنته السابقة بابتسامة صغيرة، قائلاً: "العربيّ يحارب من هم ضدّ العرب"... إذاً، كان أبو جهاد مقاوماً.

ولأنّه أحبّ التحف والأغراض القديمة، وقف ساعات أمام واجهات محال تبيع أشياء أثريّة، وما كان باستطاعته شراؤها، اختار مهنة تجارة الأنتيكا.
بدأ بشراء القليل من التحف لأنّه لم يملك رأس مال كافياً. لم يكن يعلم بمبادئ هذه التجارة وقانونها، فكان يفشل في بيع بعض الأغراض وينجح في أخرى. إلّا أنّ شغفه بهذه "المصلحة" دفعه إلى شراء مجلاّت متخصّصة بهذه التجارة مثل "ساوْسبس"، مجلة المزادات العالميّة. كان يسهر الليالي لتثقيف نفسه كي يعرف قيمة التحف الفنيّة والماديّة والتاريخيّة وأهميّتها.
بدأ في عام 1989 ببيع قطع أنتيكا فاق عمرها مئة عام. ساعات وتماثيل ولوحات، كان يشتريها أحياناً من أشخاص، محال، قاصداً منازل في مختلف المناطق البعيدة ليجمعها.
لا تجد كلّ ما تطلبه عند أبو جهاد، فهو لا يجمع كلّ شيء، بل يعتمد على ذوقه، وحسّه الفنّي عند الشراء: "أنظر إلى التحفة بعين يملؤها الإحساس والجمال، أراها بطريقة لا يراها التاجر، يهتف قلبي، فأشتريها"، يروي لـ"العربي الجديد". أضف إلى ذلك، ينتقي ما يبحث عنه الزبون.

تجارة التحف في نظر أبو جهاد فنٌّ أوّلاً: "أنا فنّان، أكتب الشعر، وسبق أن أعطيتُ كلماتي لبعض الفنانين، مثل وليد توفيق وغيره. كتابة الشعر، وجمع التحف، فنّان شبيهان".
يتلفّظ أبو جهاد كلمات باللغة الإنكليزيّة وهو يسرد قصّته، هذا الرجل الستينيّ لم يعلّمه السوّاح اللغة، ولا أولاده. هو الحاصل على شهادة السرتفيكا (الخامس ابتدائي، كانت شهادة رسميّة قبل الحرب اللبنانيّة)، وكانت اللغة الإنكليزيّة مفضّلة لديه، لذلك رافقته بعض العبارات إلى يومنا هذا: "بكلّ تواضع، أُتقن اللغة العربيّة الفصحى وقواعدها كأيّ متعلّم وأكثر".

الحديث في السياسة يقلق أبو جهاد أمام الغرباء، وخصوصاً الإعلاميين. إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من تقديم تحليله حول ما يحصل في الدول العربيّة، وحول الهدف من "الحروب العبثيّة".
بنبرة واثقة قال: "في الدول العربية الأنظمة والإرهابيون دمّروا المقامات والمساجد بهدف تضييع الهوية العربيّة، وإدخالنا في العولمة الاستهلاكيّة البعيدة عن التراث والحضارة، والعيش بطريقة روبوتيّة تفرض على المواطن العمل فقط، تناول الطعام والنوم... يريدوننا بدائيين". هكذا يتحدّث كما لو أنّه "فيلسوف" فعلاً، كما تقول زبونة دخلت أثناء زيارتنا إليه. سلّمت على أبو جهاد كأنّها صديقة الطفولة: "الكل يعرفه، خواجة، مسالم، منّو مشكلجي، مثقّف، راقٍ، يعلم كلّ شيء، خلوق، وفيلسوف".

رغم أنّ مصلحته تفرض عليه الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من الأصدقاء، إلّا أنّه لا يعتبرهم جميعهم مقرّبين: "أصدقائي محدودون، ويعود السبب بذلك إلى أنّني لا أتّفق مع أحد ما لم يكن مثقّفاً، وحضارياً، أنا لست رجلاً تقليديّاً، أحبّ الحريّة الفرديّة للمرأة ولكلّ شخص محروم منها. رجل في عمري تراه يحمل مسبحة في يده، وعندما يسمع الآذان، يقصد الجامع. لكن أنا لا أصلّي، ولا أصوم، بل أؤمن بالله أكثر من أيّ شخص".
في محلّه، تجد تلفزيونات من الخمسينيّات، وآلة كاتبة عمرها أكثر من مئة عام. يلفت نظرك عدد كبير من لافتات دعاية "كوكا كولا" وأنواع من الكحول و"اللوتو اللبناني". ولا يخلو من صور بعض السياسيين العرب أمثال جمال عبد الناصر ومعمّر القذّافي والملك فيصل الثاني. لكن صورة عبد الناصر، المصنوعة من طوابع قديمة، محبّبة إلى قلب أبو جهاد أكثر من غيرها، ولا يريد بيعها أبداً.

يعترف أبو جهاد (ضاحكاً)، أنّ هناك سرّاً في شراء بعض التحف. لكن ما سرّ الضحكة التي حلّت عليه بعد سؤاله عن سبب كثرة زجاجات مشروبات قديمة وإلى جانبها كؤوس تحمل شعارات ماركات معروفة؟ يجيب: "أحياناً أشتري أشياء تعنيني شخصيّاً. أحبّ المشروبات وأحب أن أجمع كل ما يخصّ أنواعها القديمة".
أمّا سبب كثرة لافتات "اللوتو اللبناني" ولافتات بأسماء محلاّت ومطاعم قديمة، فهو أنّها "أشياء من زمن انتهى. حتّى المحلاّت لم يعد لها وجود، جمّعتها تخليداً لذكراها، كما أنّ هذه الأغراض تثير دهشة الزبائن، لأنّ اللافتات القديمة لها قيمة إبداعيّة وفنيّة تختلف كلّياً عن لافتات هذه الأيّام".  

تجد هنا كراسي قديمة، صور شخصيات من المجتمع لا يعرف عنهم أبو جهاد شيئاً ومنهم من بحث عن هوّيتهم وعرف تاريخهم. للأسطوانات القديمة مكان كذلك في زاوية المحلّ المؤلّف من طابقين، الأوّل من غرفة واحدة، أمّا الثاني فيتألّف من ستّ غرف تزدحم بالتحف والآثار، وقناني الكحول القديمة، مجلات وكتب، كاميرات، ساعات حائط، فناجين، عصي لعبة الغولف، حقائب سفر لطيران الشرق الأوسط، صناديق للمجوهرات والملابس. ثمة معنى لشراء بعض الأغراض، خصوصاً أنّها تعرّف الناس إلى لبنان في الخمسينيّات وما قبلها.
يقصده بعض المخرجين والممثّلين لاستئجار بعض التحف، كي يستعملوها في التصوير، مثل فيلم "كارلوس"، ومسلسل "حلاوة روح". أمّا زبائنه فهم من محبّي الآثار والفنون العتيقة، وأصحاب المقاهي الليليّة والمطاعم الذين يطلبون لافتات أكثر من أيّ شيء آخر.

"هذه الأغراض نادرة"، يقول أبو جهاد ويتحسّر على تاريخ البشر عندما يُسأل عن وجود شهادة جامعيّة لأحد الأشخاص أو صور قديمة، فيجيب: "تاريخ الإنسان رخيص، وجدت هذه الشهادة في سوق الأحد". يشير بيده إلى صورة قرب الشهادة العلميّة، ويضيف: "علمتُ أنّ هذا الفتى هو صاحبها، وسألت عنه، وعرفت أنّه توفي، واستغربت وجودها في هذا المحل وقد اشتريتها بسعر ضئيل جداً. كما استطعت الحصول على عدد من الميداليات العسكريّة، وعلمت فيما بعد هويّة صاحبها. كان برتبة جنرال أوسترالي خدم في لبنان. فاشتريت ميداليات تعب وكفاح جنرال كبير بسعر بخس. كيف يُهمَل تاريخ عريق للإنسان ويُبَاع ويُرمَى في النفايات، غريب أمر البشر"!

الثقة المتبادلة بين أبو جهاد وزبائنه أصبح عمرها من عمر التحف، فعندما يروي قصّة التحفة وتاريخها ويعرض سعرها أمام الزبون، يثق الشاري بكلام أبو جهاد، الذي غامر في هذا العالم العتيق المجهول، فنجح وأبدع.
المساهمون