عالقون بالمطار وإسراطيون في تونس

01 يونيو 2014

تونسيون يرحبون بفلسطينيين قادمين من بيروت صيف 1982

+ الخط -

كان الاحتفال بالحج إلى الغريبة، في مدينة جربة التونسية، هذه السنة، استثنائياً بكل المقاييس، فقد توافد عليها من كل أصقاع العالم آلاف الحجيج اليهود، ومن غير أصحاب أهل الديانة اليهودية من رؤساء الأحزاب السياسية التونسية، وقيادات المجتمع المدني، في سابقة لم نعتد عليها. فلم يسلم الحج، هذه المرة بالذات، من مبادرات أربكت على الشعائر والطقوس صفاءها وروحيتها الخالصة. حزبيون هرولوا تكفيراً عما اعتبروه ذنباً، حين ساءلوا وزيري السياحة والأمن عن تأشيرات واستقبالاتٍ، خصوا بها سياحاً إسرائيليين، وأكاديميون متهمون بالتطبيع أشهروا تحت غمامات الحج كونيتهم المطلقة، ولائكيون حداثيون كانوا يرون في الإسلام خرافة، لكنهم يبتهلون في خشوع ورهبة تحت سماء الغريبة. كان الحج بازاراً عرضت فيه أغرب الصور والمواقف، لا ندري مقدار ما ستدره على أصحابها من خيرات، في سوق الأسهم الرمزية والمادية. 
تحت التغطية المكثفة التي شدّتنا إلى الحدث شداً، علق فلسطينيون في مطار قرطاج الدولي، عصافير منهكة حطت على أسلاك شائكة.
"قضية صغيرة" لم يفطن إليها الإعلام، ولا الحكومة، حتى لا تتحول عمداً إلى قضية رأي عام. ففي تونس، تستطيع لوبيات الإعلام أن تجعل من وثاق حلزون مفقود قضية رأي عام، يهتز لها الشارع، ويبدي من ردود الأفعال ما لا نتوقع. كيفما قلبت الأمر، تجد أن اهتمام التونسيين "بأشيائهم" الوطنية وقضاياهم الكبرى جعلهم لا ينتبهون، هذه المرة، إلى ما حدث، أو، على الأقل، يتأخر سماعهم به. هذه المرة وعلى غير عادته، عجز الإعلام الافتراضي عن اختراق جدران الإسمنت الكثيفة، لنواكب معه على المباشر ما كان يحدث في المطار الصغير. 
تعددت الروايات فيما بعد، وظلت الأخبار الرسمية شحيحة متناقضة، حتى بعدما تسربت تفاصيل فيما بعد، فإن أحداثاً ومواقف ظلت، إلى حد الآن، ملتبسة. المهم أن الناس فطنوا، بشكل متأخر، بإيقاف نحو ثلاثين فلسطينيا في مطار تونس قرطاج، واستمر الأمر أكثر من أسبوع، قبل أن تحدث المعجزة التي تنافست الآلهة على حقوق تأليفها.
في بلاد المصادفات الغريبة، كان تونسيون يحيون، آنذاك، باحتشام كثير ذكرى النكبة التي لم تشر إليها وسائل الإعلام، خشية أن يقع إفساد المزاج العام، وهي تهمة قد يتم التنصيص عليها في الأيام المقبلة، فالنموذج التونسي الذي نتصارع حول تحديد ملامحه قد يفرض علينا أن نلتزم بالزهو والطرب مواصفاتٍ للتونسي الوطني الأصيل. تماماً كما اتفقنا، في الماضي، على أن تونس بلد الفرح الدائم. في أحيان كثيرة، تعيد ماكينة اليد الخفية تشغيل الجهاز الدعائي القديم من الصور النمطية والشعارات الركيكة، لجعلها خطاباً عالمياً هذه المرة.
باستثناء منظمات وطنية حقوقية ونقابية، فإن رد فعل الطبقة السياسية وفعاليات المجتمع المدني لم تكن في حجم ما حدث، فالرابط التاريخي بالفلسطينيين ما كان يجيز ذلك الحجز، فلقد اتسع صدر تونس والتونسيين لآلاف الفلسطينيين، على إثر محنة بيروت في صيف سنة 1982 الكالح. كان ذلك قد حدث تحت حكم الراحل الحبيب بورقيبة الذي لم تعرف له مواقف عروبية تذكر.


ولكن، في مفارقة محيرة، يتنامى التحرش بالقضية الفلسطينية والفلسطينيين عموما بعد الثورة، فكأن مناكفة الإسلاميين الذي حكموا تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 تقتضي التشفي من الفلسطينيين لعلاقة ما بين حركتي حماس والنهضة، وكأن الكونية التي يعلنها بعض من نخبنا تقتضي، أيضاً، طمس هوية الفلسطينيين، وكأن حداثة بعض آخر تقتضي التخلص من "الخرافة الفلسطينية".
ما يحدث الآن ليس سوى ظلال لمناخ ينشده بعضهم، فمنذ الثورة، بدأ تيار سياسي وثقافي ينشط بشكل بارز وأكثر جرأة وتبجحاً، راغبا في تطبيع كامل وسافر مستفيداً من مساحات الحرية الشاسعة، وما يوفره الدستور من حقوق تتعلق بالتعبير.
يعمد هذا التيار، ولحشد أكثر ما يمكن من مؤيدين، قبل كشف أطروحاته نهائياً، إلى التبشير بما يشبه نظرية إسراطين التي صاغها العقيد معمر القذافي، في إحدى "فزوراته" الغامضة. إنها إسراطين مجزوزة من استحقاقاتها السياسية والقانونية والأخلاقية، على شاكلة تعايش إنسانيٍ، يقفز على التاريخ والحاضر، ويقدم وطن العيش المشترك الذي علينا أن نحارب من أجله أشكال المقاومة كافة، باعتبارها تطرفاً وإرهاباً. باسم المشاطرة، يضع هؤلاء ساقاً في إسرائيل، وأخرى على هامش فلسطين، في انتظار سحبها والوقوف بقدمين ثابتتين على أرض الميعاد، ولا شيء غيرها. واستناداً إلى تلك القيم الإنسانية، المتعالية على حقائق التاريخ وحقوق الشعوب، يستدرج هؤلاء حالياً شباباً متبرماً من بعض خيبات الثورات العربية.  يعلم الإسراطيون أن الاستثمار في تلك الغابة الدفينة من مشاعر الخوف والنقمة والخيبة، قد يفتح في رخام الممانعة مسالك للتطبيع، ستكون، هذه المرة، تحت الشمس، وبافتخار كثير.
تسمح العقيدة الإسراطينية، في الوقت نفسه، باستقبال الإسرائيليين والفلسطينيين، بكثير من مشاعر البهجة والضيافة، غير عابئة بالتاريخ، فتلك حكاية توجع الرأس، وتفسد علينا بهجتنا، وأخلاقاً سياحيةً كثيرة مطلوبة، كما يقول أشقاؤنا المصريون في مسلسلاتهم الكاسدة حالياً. كانت حادثة مطار قرطاج بروفة ناجحة بكل المقاييس لفائدة الإسراطيين.


 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.