29 سبتمبر 2017
عاش أرمنياً ومات فلسطينياً
كان يغلق دكانه خشبي الجدران، حيث يعمل ويسكن على مدخل عين الحلوة، مثلما كل مساء، ويمشي الى المخيم، ليلعب الورق مع رفاقه من اللاجئين، ثم يعود، بعد التاسعة بقليل، إلى مسكنه لينام، ويبدأ عمله صباحاً بالخياطة، وترقيع ملابس اللاجئين وإصلاح بزّات الجنود اللبنانيين في ثكنة الجيش القريبة.
كان إسكندر أرمنياً من الأرمن الذين أساء لهم قدر الظلم مرتين. الأولى عندما هرب أجداده من بطش العثمانيين إلى فلسطين، والثانية من بطش عصابات الهاغانا وشتيرن من فلسطين إلى لبنان. كان إسكندر مقامراً محبوباً لدى أبناء المخيم، فهو صاحب نكتة ونباهة وسخرية لاذعة، ما جعله نجم سهرات المقاهي. وكانت لغته العربية المنطوقة بلسان أرمني محببة، ولا تثير أي سخرية، فقد كانت الحروف العربية تتدحرج من بين شفتيه، لاهيةً لهو الأطفال، أو صارمةً صرامةً لا تخلو من دعابة. وكنا، نحن الصغار، الأشد ولعاً بتلك اللهجة المحببة، حين كنا نراه ماشياً ببدلته السوداء، وقميصه الأبيض النظيف، وشعره الرصاصي، وانحنائة ظهره الطفيفة. كنا نسرع لتحيته باسمه الأول، مجرّداً من عمو أو أي لقب آخر. نقول مداعبين: صباح خير اسكندر، فيرد علينا: وله عفريت روح عمدرسة. .. كان يخاطبنا بصيغة المفرد، وكنا سعداء بأنه يلملمنا في واحدٍ في جملة واحدة. لم نعرف أي قدر ساقه إلى مخيمنا، فقد سكن، في البداية، داخل المخيم، ثم انتقل الى تلك البراكية على ضفة وادٍ نشفت مياهه. كانت برّاكيته مثل نقطة حماية لنا، أو قل مثل الأبراج التي تحمي المدن المهدّدة من أعداء مجهولين.
لم نكن نعرف لماذا عاش وحيداً. لا أحد يعرف شيئاً عن عائلته، فقد كان بعضنا يقول إن عائلته تسكن في برج حمود مستندين إلى حقيقة أن الأرمن في لبنان كانوا يعيشون في تلك البقعة المزدحمة المحيطة ببيروت، وكان بعضنا الآخر يقول إنه خرج وحيداً من فلسطين عام 1948، عندما تشرّد أهلها إلى الدول المجاورة. لم نسمع عن زياراتٍ له من أرمنٍ مثله، فقد كانت حياته مقسمةً بين دكانه وسكنه، وبين المخيم، ليلعب الورق مقامراً، أو على سبيل تمضية الوقت، إلى أن يحين وقت حظر التجول في المخيم، فيسري إلى وحدته التي جعلتنا جاهلين حتى باسم عائلته، فهو إسكندر فقط، كأنه ولد من نفسه، وعاش لنفسه، ولا أحد يعرف عنه شيئاً، غير أنه أرمني اختارنا لنؤنس حياته البائسة ببؤسنا في الحياة.
عندما سألت عن مصير اسكندر، بعد كل تلك السنين، أفجعني أنه قُتل بوحشية على أيدي مسلحي حزب الكتائب الذين استقووا بجيش إسرائيل، بعد احتلال المنطقة على إثر اجتياح 1982. قتله مسلحو الكتائب، لأنه عندما سألوه عن أصله قال لهم إنه فلسطيني أرمني، ولم يكن يحمل هوية غير تلك الهوية الزرقاء المريبة التي يحملها اللاجئون الفلسطينيون، وكان هذا سبباً كافياً لدق مسمار كبير في رأسه، غضباً من انتمائه للفلسطينيين وهو المسيحي الأرمني.
في مرحلةٍ لاحقة من العمر، عندما بدأت الأسئلة في رؤوسنا الصغيرة تأخذ شكل البحث عن الحقائق، عرفنا أن الأرمن عاشوا في فلسطين منذ القرن الثالث للميلاد، واعتبروا من أهل المكان. عاش معظمهم في القدس وبقية المدن الفلسطينية، ومنهم من تشتت مع المشتتين في دول الجوار، ومن هؤلاء التشكيلي من الرواد في لبنان بول غيراغوسيان، ورسام الكاريكاتور جورج كريان. وفي مدينة طولكرم الشاعرة لليلي كرنيك. وفي بيت لحم الدبلوماسي والأكاديمي مانويل حساسيان. وفي القدس ألبرت أغازاريان الأستاذ في بير زيت والناطق الرسمي للوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام وغيرهم. يتذكّر العالم اليوم المذبحة العثمانية الكبرى في مفتتح القرن الماضي ضد الأرمن، وأتذكّر اسكندر القتيل الفلسطيني الذي أحببناه لأنه أرمني.
كان إسكندر أرمنياً من الأرمن الذين أساء لهم قدر الظلم مرتين. الأولى عندما هرب أجداده من بطش العثمانيين إلى فلسطين، والثانية من بطش عصابات الهاغانا وشتيرن من فلسطين إلى لبنان. كان إسكندر مقامراً محبوباً لدى أبناء المخيم، فهو صاحب نكتة ونباهة وسخرية لاذعة، ما جعله نجم سهرات المقاهي. وكانت لغته العربية المنطوقة بلسان أرمني محببة، ولا تثير أي سخرية، فقد كانت الحروف العربية تتدحرج من بين شفتيه، لاهيةً لهو الأطفال، أو صارمةً صرامةً لا تخلو من دعابة. وكنا، نحن الصغار، الأشد ولعاً بتلك اللهجة المحببة، حين كنا نراه ماشياً ببدلته السوداء، وقميصه الأبيض النظيف، وشعره الرصاصي، وانحنائة ظهره الطفيفة. كنا نسرع لتحيته باسمه الأول، مجرّداً من عمو أو أي لقب آخر. نقول مداعبين: صباح خير اسكندر، فيرد علينا: وله عفريت روح عمدرسة. .. كان يخاطبنا بصيغة المفرد، وكنا سعداء بأنه يلملمنا في واحدٍ في جملة واحدة. لم نعرف أي قدر ساقه إلى مخيمنا، فقد سكن، في البداية، داخل المخيم، ثم انتقل الى تلك البراكية على ضفة وادٍ نشفت مياهه. كانت برّاكيته مثل نقطة حماية لنا، أو قل مثل الأبراج التي تحمي المدن المهدّدة من أعداء مجهولين.
لم نكن نعرف لماذا عاش وحيداً. لا أحد يعرف شيئاً عن عائلته، فقد كان بعضنا يقول إن عائلته تسكن في برج حمود مستندين إلى حقيقة أن الأرمن في لبنان كانوا يعيشون في تلك البقعة المزدحمة المحيطة ببيروت، وكان بعضنا الآخر يقول إنه خرج وحيداً من فلسطين عام 1948، عندما تشرّد أهلها إلى الدول المجاورة. لم نسمع عن زياراتٍ له من أرمنٍ مثله، فقد كانت حياته مقسمةً بين دكانه وسكنه، وبين المخيم، ليلعب الورق مقامراً، أو على سبيل تمضية الوقت، إلى أن يحين وقت حظر التجول في المخيم، فيسري إلى وحدته التي جعلتنا جاهلين حتى باسم عائلته، فهو إسكندر فقط، كأنه ولد من نفسه، وعاش لنفسه، ولا أحد يعرف عنه شيئاً، غير أنه أرمني اختارنا لنؤنس حياته البائسة ببؤسنا في الحياة.
عندما سألت عن مصير اسكندر، بعد كل تلك السنين، أفجعني أنه قُتل بوحشية على أيدي مسلحي حزب الكتائب الذين استقووا بجيش إسرائيل، بعد احتلال المنطقة على إثر اجتياح 1982. قتله مسلحو الكتائب، لأنه عندما سألوه عن أصله قال لهم إنه فلسطيني أرمني، ولم يكن يحمل هوية غير تلك الهوية الزرقاء المريبة التي يحملها اللاجئون الفلسطينيون، وكان هذا سبباً كافياً لدق مسمار كبير في رأسه، غضباً من انتمائه للفلسطينيين وهو المسيحي الأرمني.
في مرحلةٍ لاحقة من العمر، عندما بدأت الأسئلة في رؤوسنا الصغيرة تأخذ شكل البحث عن الحقائق، عرفنا أن الأرمن عاشوا في فلسطين منذ القرن الثالث للميلاد، واعتبروا من أهل المكان. عاش معظمهم في القدس وبقية المدن الفلسطينية، ومنهم من تشتت مع المشتتين في دول الجوار، ومن هؤلاء التشكيلي من الرواد في لبنان بول غيراغوسيان، ورسام الكاريكاتور جورج كريان. وفي مدينة طولكرم الشاعرة لليلي كرنيك. وفي بيت لحم الدبلوماسي والأكاديمي مانويل حساسيان. وفي القدس ألبرت أغازاريان الأستاذ في بير زيت والناطق الرسمي للوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام وغيرهم. يتذكّر العالم اليوم المذبحة العثمانية الكبرى في مفتتح القرن الماضي ضد الأرمن، وأتذكّر اسكندر القتيل الفلسطيني الذي أحببناه لأنه أرمني.