عاشت ليبرلاند الجديدة

22 مايو 2015
+ الخط -
في مُتفرقات أخبار هذا الأسبوع، إعلان مجموعةٍ من الشباب الأيرلندي عن تأسيس دولة جديدة تحت مُسمى "إنكلافيا"، في مساحةٍ ضئيلة لا تتعدى مائة متر مربع بين كرواتيا وسلوفينيا، وبأقل من مائتي مواطن ملتحقٍ بالجمهورية المجهرية الناشئة. 
يذكّرنا الخبر الذي قد تتوزع هيئات التحرير بين نشره في الصفحات السياسية ووضعه في باب الأخبار الطريفة بالجدل الذي رافق، قبل أسابيع، ظهور دولة تدعى "ليبرلاند"، مُعلنة فتح طلبات المواطنة عبر صفحات "فيسبوك".
في الحدث ما يُشبه جنوحاً لخيالٍ روائيٍ. السياسي التشيكي، فيت جيدليكا، الذي لا يزيد عمره على الثلاثين عاماً، وذو الميول الليبرالية، سيعلن، في أواسط أبريل/نيسان الماضي، إقامة دولةٍ جديدةٍ على مساحة سبعة كيلو متراتٍ مربعة، في منطقة صعبة الولوج، وغير مأهولة متنازعٍ عليها بين كرواتيا وصربيا.
اختارت "ليبرلاند"، أو أرض الحرية، أن تكون دولةً بنظامٍ برلمانيٍ وبلا جيشٍ ولا ضرائب، شعاراً لا يقل إغراءً وشاعرية "عِشْ واترك الآخرين يعيشون"، وعلماً بالأسود والأصفر، وصممت موقعاً إلكترونياً للتفكير في الدستور المقبل، وفي قوانين الجمهورية.
أنشأ رئيس "ليبرلاند"، رفقة زملائه في القيادة المؤقتة، صفحة في "فيسبوك" لاستقبال طلبات المواطنة. في موقع ويكيبيديا، يمكن أن نتأمل في الشروط اليسيرة للظفر بهوية جديدة بطعم الحرية والمغامرة، إذ ليس هناك أكثر من نقاء الإيديولوجيا، فالانتماء للدولة اليافعة يقتضي تاريخاً خالياً من النزعات المتطرفة والميول النازية أو الشيوعية. عدا ذلك، ليس هناك أمام طلبات الالتحاق غير سقف الديمغرافيا، فرئيس الجمهورية النائمة في الغابات الكثيفة على الشط الغربي للدانوب لن يقبل بأكثر من خمسة آلاف مواطن، سيتعاهدون بألا يصنفوا بناءً على الجنس أو العرق أو الدين، وأن يتعاقدوا من أجل مجتمعٍ لا يسمح للسياسيين بالتدخل، إلا في أبسط الحدود.
في بقية التفاصيل أن عشرات الآلاف من سكان الأرض تفاعلوا مع العرض، وأغرتهم فكرة الهوية الجديدة التي بلا تاريخ ولا آلام، منتظرين الاحتفالية القريبة لمنح الجنسيات وإعلان ولادة الشعب، بعد إعلان الدولة والسلطة والجغرافيا.
نصيبنا في الحكاية أن مواطنين عرباً انخرطوا في منتديات النقاش في الأرضية الافتراضية التي صممتها "جمهورية أرض الحرية"، وأن بعضهم قد أقسم على الوفاء الأبدي لهويته "الليبرلاندية" الجديدة، ومنهم من فكّر في المبادرة إلى بناءِ أول مسجدٍ في الجمهورية الموعودة، واعتبر كثيرون منهم الوطن الجديد بديلاً جذرياً لقوارب الموت التي ظلت الجسر الوحيد الذي يفصل المعاناة عن أرض الأحلام، وطبعاً هناك من تساءل من باب الاطمئنان عمّا إذا كانت "ليبرلاند" ستكون فعلاً بلاداً سعيدة، مثل فكرةٍ فلسفية أصليةٍ ودولة فاضلةٍ، مثلَ حُلُمٍ ساذجٍ، وهل حقاً ستكون وطناً بلا بوليس ولا استخبارات؟
عندما كان النقاش الافتراضي حاداً وصاخباً، بما يليق بمغامرة إنسانية قصوى في إعادة بناء الهوية، وبينما كان فريقٌ مُتطوعٌ من سبعة شباب مشغولين بمهمة فرز وتدقيق الطلبات، وكان الحالمون بوطن جديد يناقشون بالجدية المطلوبة ألوان العَلَمَ وقصيدة النشيد وشكل العُملة وحجم الطابع البريدي، ستقرر الخارجية المصرية، في رد فعل مفاجئ، أن تٌهاجم فكرة الوطن الوليد.
وحده بيان الخارجية المصرية أفسد الحكاية، أخرج متوالياتها السّردية من شاعرية البحث عن وطن جديد إلى نثر القانون الدستوري ومفاهيم الدولة والسيادة والاعتراف الدولي. فعل ذلك وهو يُحولُ قصور الرمال المشيدة من أوهام الهروب من قَلَقِ الهوية إلى انتماء مٌتَخيلٍ، إلى مجرد خديعة، محذرا الشباب المصري من مغبة السقوط في حبالها المحاكة على مقاس الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
مرة أخرى، إذن، نعيد اكتشاف مقطع جزئي، قد يعبر إلى حد ما، عن حالة عامة لشباب عربي، يبدو تحت شروخ الهوية وعُسرِ الانتماء، دوماً على أهبة الرحيل، مستعداً لمقايضة واقعه العنيد بأوهام تحمل من الأسماء ما يحبل بالتناقض، أوهام قد تحمله إلى دولة بهشاشة موقعٍ في الإنترنت، أو إلى سفر في التاريخ والعصور، بحثا عن عهد الخلفاء، وعن أسطورة أمجاد السلف الصالح، وعن "الدولة الإسلامية "المُستعادة، أو قد تحمله رأساً عبر مشاريع "جهادية"، بعيداً عن هذا العالم، وطلبا لحياة أخرى.


2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي