يحمل أيهم الأكورديون ويجرّ خلفه البيانو على عربة، متنقّلاً في شوارع مخيّم اليرموك (جنوب العاصمة السوريّة) وحاراته، وهو يغنّي للحجارة المتراكمة فوق بعضها والبيوت الخالية من أهلها ولمن بقي صامداً بين الأنقاض.
مع بداية الثورة السوريّة، عاد أيهم أحمد إلى وطنه الصغير ومكان انتمائه "مخيّم اليرموك"، حاملاً معه ألحانه وأحلامه. فقد كان قبلها، يتابع تخصّصه الموسيقي الأكاديمي في كليّة التربية الموسيقيّة في حمص. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشاب كان قد بدأ تدريبه الموسيقي وهو في السادسة من عمره، في المعهد العربي للموسيقى. وفي السادسة عشرة، تخصّص في العزف على آلة البيانو على يد فلادمير زرايسكي، وهو خبير في البيانو في سورية.
يروي أيهم أنه "بعد فترة قصيرة من عودتي لم تتجاوز بضعة أشهر، تأزم وضع المخيّم كثيراً. وأغلق الطريق كإعلان عن بداية الحصار. قرّرت أن أعزف لنفسي أولاً. فأنا معتاد على التمرّن لأربع ساعات يومياً. والموسيقيّ عادة، إن انقطع عن العزف والتمرين، فهو لا بدّ من أن يشعر بنقص يؤدي به إلى اكتئاب ثقيل، لا يزيحه إلا الجلوس أمام البيانو والعزف". ويسأل: "وكيف إن كان ذلك في مكان قاس مليء بالخوف، كبركان تنتظره أن يحرق ما تبقى من حلمك؟".
وراح أيهم يطلق ألحانه في الساحات المحترقة وأمام الأبنية المدمرة، في حارات المخيّم الصامدة في وجه القذائف والبراميل. يقول: "ذلك يبشّر بالأمل. الموسيقى تعطي الكثير من الحب والسلام للحجر والبشر على حدّ سواء. هي تدفع على الحب والهدوء. حين أعزف يشعر كل من حولي بأمل مقبل، وبأن الأزمة ستنتهي، وبأن فجراً جديداً سيطلع".
اليوم، عندما يرى الناس البيانو الأبيض القديم في واحدة من ساحات المخيّم، ترتسم البسمة على وجوههم المثقلة بهموم الحياة والمذعورة من هدير الطائرات. فنغماته تعني "تفاؤلاً بعودة المهجّرين وانتهاءً للأحداث الدامية، وفكاً للحصار، واجتماعاً للأيادي بهدف إعادة بناء مخيّمنا"، بحسب ما يلفت أيهم. يضيف: "أصبحت الموسيقى لغة العالم في المخيّم، والبيانو حاملاً تلك الطاقة بين مفاتيحه".
إلى جانب العزف، راح أيهم يؤلّف أغانٍي بسيطة ذات ألحان سهلة الحفظ لا تخلو من رسائل نقديّة ساخرة، بالإضافة إلى أنها تحمل رسائل عدّة من قبيل مطالبة المهجّرين في بقاع العالم المختلفة بالعودة إلى المخيّم الذي يحتاجهم.
هو يحاول من خلال تلك الأغاني أن يصف المعاناة التي عاشوها خصوصاً في الأشهر الأخيرة في خلال ما أسموه بـ"أشهر الجوع"، إذ وصل ثمن كيلو الأرز إلى 15 ألف ليرة سوريّة (100 دولار أميركي) وراح الأهالي يتناولون عشبة سامة مليئة بالزنيخ "غير صالحة حتى للحيوانات".
في أغانيه، يحاول أيهم دائماً التركيز على الأمل. تقول إحدى أغنياته: "زد يا وطن زد ما تسأل على اللي راح، مرت حب وأمل زدنا، مرت سنين طوال، مر الأسى دقنا، والليل مهما طال نور الشمس إلنا".
أما في أغنية أخرى، فيطالب الشاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بالتدخل لإنهاء أزمة اللاجئين الفلسطينيّين العالقين في المخيّم. فيقول فيها: "دبرنا محمود عباس، صرنا لعبة بين الناس، صار المخيم مهجور وبكيت عنا كل الدور، قربنا ننسى فلسطين ما عنا خبز ولا طحين".
ويشرح: "نحاول من خلال هذه الأغنية نقل تراجيديا المعاناة والشقاء. نحن نطالب بحقنا في العودة إلى فلسطين. لكن المفارقة أن مطلبنا الأساسي اليوم هو كيس طحين لا أكثر". يضيف: "الأفواه الجائعة لا تتحدث عن حقها إلا عندما تمتلئ البطون".
اليوم، يستخدم أيهم عربة البيانو لتحميل المياه. فمع انقطاع مياه الشفة - أحدث أزمات مخيّم اليرموك - والذي يمتدّ منذ 60 يوماً، راح الأهالي يعبئون المياه من الآبار ويشربونها على الرغم من تلوّثها.
صوت الأطفال وضحكاتهم
وبهدف إلهاء الأطفال المحاصرين في داخل المخيّم، أسس أيهم فرقة كورال أبطالها مجموعة من هؤلاء الصغار. بالنسبة إليه "صوت الأطفال كثيراً ما يحرك أحاسيس العالم الداخليّة ووجدانهم. وضحكاتهم تنسينا الواقع المرّ الذي نعيشه هنا". ويقول: "مع داليا وسارة وهبة وريما وراما، لدينا علاقة خاصة. هم أطفالي وأحبائي، والمعاناة جمعتنا وزادت من ارتباطنا ببعضنا بعضاً".