عاتبٌ على أمي

05 ابريل 2016
+ الخط -
ربما كان اعترافاً متأخراً لأمي، غير أنني أجد نفسي مدفوعاً، هذا العام، لأعلن نقمتي على عيد الأم، لأنني لم أستطع، حتى اليوم، أن أسامحها على تلك اللحظة التي أعلنتْ فيها أن وقت فطامي قد حان، وتركتني أصارع أنيناً لم يخفت بعد.
حاولت، ولو على نحو مباشر، أن ألفت انتباهها إلى أن فطامي ليس "في عامين"، فحطمت المزهريات والصحون، ونثرت مناديل الورق في أرجاء البيت، وتعمّدت الصراخ والبكاء من دون سبب، علّها تتراجع عن قرارها القاسي بحقي. لكن، من دون جدوى، إذ كان واضحاً أن القرار كان قطعيّاً، ويندرج تحت "البند السابع"، ما يعني استخدام كل الوسائل المتاحة لطرد جحافل طفولتي عن صدرها الذي كان أول وطنٍ عرفته في حياتي، فكان ذلك الحرمان من "وطني الأم" أول منازل اغترابي الطويل.
راودني إحساس باليتم، آنذاك، فشعرت بأني ملفوفٌ بغطاء، وموضوعٌ على باب ميتمٍ حقيقيٍّ في ليلة قارسة البرودة، أنتظر بزوغ شمسٍ لا تشرق، أو محكوماً بالإعدام على استعداد لدفع الغالي والنفيس لقاء إضافة خمس دقائق أخرى إلى عمره المحتضر.
وممّا كان يزيد من احتقاني، أنني كنت أشعر بحدسٍ غامض، ينبئني أن هذا الطرد الذي أخضعتني له ستكون له عواقب وخيمة في أزمنةٍ مقبلة، يغدو فيها الفطام متكرراً على وجوهٍ أخرى لا تقل قسوة، وأنيناً غير مسموع.
هل أسرد لك، يا أماه، كم فطاماً تعرّضت له بعد انفصالي الأول عن حضنك؟ هل أحدّثك عن "فطام الحرية"، مثلاً، وعن أناسٍ وأنظمةٍ جرّدوني من ثديها قبل الرضاع، وهم يعلمون أن انفصالي عنها يعني الموت؟ أم تراني أحدثك عن "الفطام الوطني"، عن طغاةٍ حالوا بيني وبين حضن الوطن، واستأثروا بالحليب كله، وووظفوا أكثر من "الفصل السابع" لطردي منه، بحثاً عن منافٍ أكثر رحمة. وثمة "فطام عروبي" أبعدني عن ثدي العروبة، اقترفه بحقي حكامٌ يرضعون من ثدي تل أبيب كرهاً غريباً لكل ما يمتّ للعروبة بصلة، وحاولوا سحبي معهم إلى ذلك الثدي السامّ، لأصبح جزءاً من التركيبة الشرق أوسطية، بديلاً من الوحدة العربية.
عن أي فطامٍ أحدّثك، يا أمي، عن "الفطام الحضاري" الذي يخضعني له القريب والغريب، لأبقى بعيداً عن ثدي التطور والتحديث، فلا أدور بغير فلك التخلّف والجهل، وملامسة قشور الحضارة، والاقتناع بـ"الحليب المعلّب"، وبكل ما هو "جاهز" بدل "التفصيل"، بصرف النظر عن المقاس الملائم لجسدي، ومركّباته الفكرية والنفسية؟ أم أحدثك عن "فطام الكبرياء"، أنا المتروك على أرصفة التهميش الاجتماعي والفكري والسياسي، تاركأ المنابر لأناسٍ يفرضون قراراتهم وآراءهم بالعصيّ والهراوات والرصاص، ويزجّون معارضيهم في الأقبية والمعتقلات؟ أم أشكو لك "فطام الكرامة"، أنا المجرّد من أبسط حقوقي الإنسانية التي أقرّتها المواثيق الأممية، فلا حق في التعليم، ولا حق في العلاج، ولا حق في الوظيفة، وكلها أثداءٌ لا تسكب حليبها إلا في أفواه من يتقنون النفاق وهزّ الأذناب، والتمسّح بأردية السلطة والأنظمة والوسطاء.
عموماً، ها أنا كبرتُ، يا أمي، كبرتُ على فطامٍ دائمٍ عن الحياة ودبيبها، عن الأحلام ومتعتها. كبرتُ ولم أزل أحطم المزهريات، وأتعمّد الصراخ، لكن لمليون سبب وسبب هذه المرّة. كبرتُ مفطوماً عن كل رغباتي ونزعاتي الإنسانية المشروعة بالحرية والكرامة والوحدة، منذ غادرت "وطني الأول" في حضنك، من دون أن أستسيغ طعماً للحليب المجفف، إلا كرديف لجفاف الحياة العربية كلها، فكيف تريدين مني أن أحتفل بعيدٍ كان فاتحةً لاغترابٍ لم ينتهِ بعد؟
هي رسالةٌ مني إليك، يا أمي، لعلّك تمنحينني تعويضاً عن تلك الغربة التي زججتني بها، ذات قرارٍ أرعن، فتعيدينني إلى حضنك ثانيةً، لأن فطامي لم يحن بعد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.