وتحوّلت الظاهرة إلى سيف بحدّين: كابوس بالنسبة للمستهدف بها وعبء بالنسبة لمصادرها، والأخطر أنها رسمت علامة استفهام كبيرة حول رئاسة ترامب، هذا إذا لم تنته بأكثر، فلا يكاد يمر يوم من دون انكشاف تفاصيل فاضحة حول خبايا ملف التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية وملحقاته المتصلة بفريق ترامب، آخرها ما طلع اليوم حول علاقة صهر الرئيس بالروس.
حتى الآن مررت هذه المصادر، وبعضها من داخل البيت الأبيض، 11 معلومة رئيسية على الأقل، إلى وسائل الإعلام، خاصة صحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز وبالدرجة الثانية إلى وول ستريت جورنال وشبكة سي أن أن، ما جاءت به من روايات حول لقاءات واجتماعات واتصالات تحوم فوقها شكوك كبيرة، كانت كافية لفرض تعيين محقق خاص يتولى استبيان باقي خبايا اللغز الروسي، وما زالت حنفية كشف الأسرار مفتوحة، الأمر الذي أثار خشية سائر الأطراف من تداعياتها، الداخلية والخارجية.
التسريب في الولايات المتحدة ليس جديداً، فالخطوط السرية أو المموهة كانت دائماً مفتوحة بين الدوائر الحكومية والصحافة، ويجري تمرير المعلومات عن طريقين: من خلال مسؤولين بدرجات مختلفة، خاصة في البيت الأبيض والخارجية ووكالات الاستخبارات، أو من خلال مساعدين عاديين مطلعين بحكم مواقعهم على مطبخ القرار ومخزن البيانات ومحتوياتها المحجوبة عن العيان.
ينقل هؤلاء لوسائل الإعلام مواد مغرية للنشر، إما بغرض الترويج لسياسات معينة وإما بدافع فضح ارتكابات ومخالفات أو حتى بدافع تصفية الحسابات، عملية تتقاطع فيها مصالح الطرفين: الناقل والناشر. تكامل دوريهما المخفي والعلني، أحبط كثيراً من الشطط، وكان بمثابة الحارس وصمام الأمان لانتظام آليات النظام الأميركي وتصحيح انحرافاته، أو على الأقل تقليل خسائرها.
تبدّى ذلك في كشف فضيحة ووترغيت، والتي كانت ذروة التعاون الخفي بين المصدر الرسمي والصحافة، عندما أفشى مسؤول كبير في أف بي أي إلى واشنطن بوست بمعلومات عن لا قانونية ممارسة الرئيس نيكسون، وبما أدى إلى الإطاحة به.
كذلك تبدّت فعالية التسريب في فضيحة إيران – كونترا لمقايضة السلاح بالرهائن، والتي كادت أن تطيح الرئيس ريغان، تسللت أخبار العملية إلى الصحافة التي سارعت إلى وضعها تحت الضوء، ما اضطر الإدارة إلى الاعتراف بأنها قامت بالاتصال مع طهران وساعدت على تزويدها بأسلحة، على الرغم من القطيعة آنذاك معها.
بالنتيجة حصلت إقالات ومحاكمات لعدد كبير من مسؤولي الإدارة، نجا منها الرئيس بعد أن اعترف وأعلن عن تحمله شخصياً المسؤولية.
من خلال هذا الدور الكاشف صارت للصحافة قنواتها لاستخدام الأجهزة كمصدر معلومات دسمة، وفي الوقت ذاته صار لهذه الأجهزة وسيلتها لتنفيس احتقاناتها، معادلة تلبي حاجة الطرفين، وفي الحصيلة تخدم المصلحة العامة.
لكن هذه المرة تضخّمت المسألة وأثارت خشية المعنيين من المضاعفات، صحيح أنه لولا التسريبات لكانت القصة الروسية وتوابعها قد بقيت في المجهول، لكن الإمعان في الفضح والكشف قلّص مساحة السريات والمعلومات الدقيقة والحساسة، إلى حدّ أنه لا بدّ وأن يؤثر على التعاون الاستخباراتي مع الآخرين في الخارج، كما يحذر الخبراء.
وردّ فعل بريطانيا أمس يؤكد هذا التخوّف، عندما أعربت عن استيائها من إفشاء الجهات الأمنية الأميركية المعلومات التي زوّدتها بها لندن عن عملية مانشستر، ويزيد من هذا التخوّف أن التسريب لا تمارسه الجهات الأمنية الاستخباراتية فقط بل أيضاً الرئيس ترامب الذي كشف عن معلومات من هذا الفصيل للوزير لافروف.
في أساسه يعود الانفلات في هذا الخصوص إلى المعركة المبكرة التي فتحها الرئيس ترامب مع طرفي التسريب الجاري: الدوائر الأمنية الاستخباراتية التي كال لها شتى الاتهامات والصحافة التي وصفها بأنها "عدوة الشعب"، الآن يأتي الرد من جانبهما وبصورة معركة كسر عظم مع البيت الأبيض، والمواجهة طويلة. تبدو كموجة جارفة تستعصي على التحكم بمجراها.