لم تكن تلك المجزرة هي الأولى ولم تكن الأخيرة، إذ شهدت مدينة صعدة (شمال صنعاء)، في 9 أغسطس/ آب الماضي، واقعة قصف حافلة مدرسية تقل تلامذة راح ضحيتها نحو 40 طفلاً، وهو ما دفع مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة من أجل تطمين العالم بأن ما حدث لن يمضي من غير عقاب، لكن حصل أن مرّت المجزرة كسابقتها، بعدما أعلنت السعودية أنها شكّلت لجنة خاصة للتحقيق في الواقعة.
وهذا ما يحصل طوال الوقت ومنذ بداية الحرب في اليمن. من جهة يُعهد للسعودية بمسألة التحقيق في الحوادث التي تقوم هي بارتكابها. ومن جهة ثانية، تقوم السعودية بمساندة من الحكومة الشرعية ودول أخرى ترتبط بمصالح معهم بمحاولات واسعة لإيقاف تشكيل أي لجان تحقيق دولية مُحايدة للبحث في هوية الأطراف الحقيقية المُرتكبة لتلك الوقائع.
"المعركة" التي تدور في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة منذ عام 2015، أي بعد أشهر فقط من بدء التدخل العسكري في اليمن، بما في ذلك الفصل الأخير الذي جرت وقائعه في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، تشكل النموذج الأكثر وضوحاً لهذه السياسة الهادفة إلى منع توثيق ورصد حجم الانتهاكات والجرائم في اليمن، والأهم طمس هوية المسؤول عنها.
وعلى الرغم من أن السعودية بحكم تحالفاتها الحالية، تحديداً مع الولايات المتحدة ومصالحها الاقتصادية المتقاطعة مع عدد كبير من الدول الأوروبية، تعتقد بأنها بمنأى عن أي مساءلة أو محاسبة حالياً، إلا أنها تدرك جيداً أن احتمال خضوعها لأي مساءلة في المستقبل يبقى احتمالاً وارداً. ويتطلب التحسب لهذا الأمر محاولة إجهاض وجود توثيق ذي مصداقية للجرائم المرتكبة في اليمن، الأمر الذي يفسر "الحرب" التي تخوضها في مجلس حقوق الإنسان.
في أواخر عام 2015، نتيجة تزايد سقوط الضحايا المدنيين جراء الحرب في اليمن، طرحت هولندا مشروع قرار يدعو إلى إرسال بعثة لمراقبة وضع حقوق الإنسان في اليمن ورفع تقرير بشأنه، مطالبة بأن يتركز التحقيق على "انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان منذ سبتمبر/ أيلول 2014".
لكن الضغوط التي قادتها السعودية، بصفتها هي التي تقود التحالف العربي، أدت إلى سحب المشروع والاستعاضة عنه بمقترح سعودي لا يتضمن الدعوة إلى إجراء تحقيق، وهو ما علق عليه فيليب دام، من منظمة هيومن رايتس ووتش، يومها بالقول "إنها فرصة ضائعة حقاً. ما هو تفسيرها؟ إنها المعارضة السعودية التامة" لمسودة القرار. ولفت إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة واجهتا الاختيار "بين العدالة والتحالف الاستراتيجي مع السعودية".
المشهد نفسه تكرر في عام 2016. هولندا تقدمت مجدداً بمشروع قرار أمام المجلس، يطالب الأمم المتحدة بإرسال بعثة تقصي حقائق من الخبراء إلى اليمن مكلفة بمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة منذ سبتمبر 2014. لكن سخرت السعودية والإمارات إلى جانب ممثلي حكومة الشرعية، مرة أخرى جهودها لإجهاض المشروع. وأنيطت بالسودان مهمة طرح مشروع عربي بديل يطلب من المفوضية العليا لحقوق الإنسان "تعزيز تعاونها مع اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان التي أنشأتها الحكومة اليمنية واستكمال أعمال التحقيق فيها بشأن مزاعم الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها جميع الأطراف المعنية في اليمن". وعلى الأثر سحبت هولندا يومها المشروع وتم اعتماد مشروع القرار العربي بالتوافق (أي بلا تصويت)، لتَسقط مرة أخرى محاولات إطلاق تحقيق جدي في الانتهاكات باليمن.
إلا أن القرار الذي اعتمد، والذي طلب من المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة "تخصيص خبراء دوليين إضافيين في حقوق الإنسان إلى مكتب المفوضية في اليمن لاستكمال أعمال التحقيق التي تقوم بها اللجنة الوطنية، مع جمع وحفظ المعلومات للوقوف على الحقائق وملابسات الانتهاكات المزعومة وتشجيع جميع الأطراف لتسهيل الوصول والتعاون مع لجنة التحقيق الوطنية ومفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة"، بدا أنه يهيئ الأرضية لتوسيع عمله.
في العام 2017 لم تكن المعركة أقل حدة. مشروع قرار هولندي وكندي لإرسال لجنة تحقيق دولية في مقابل ومشروع عربي للإبقاء على صيغة قرار 2016 نفسها وحصر الدعم باللجنة الوطنية. هذه المرة كان الأمر يتطلب أكثر من مجرد حملات تحشيد لإجهاض المشروع. يومها تسربت رسالة تهديد سعودية تحذر فيها الدول من التصويت لصالح المشروع، ومفادها أن "تبني المسودة الهولندية الكندية في مجلس حقوق الإنسان قد يؤثر سلباً على العلاقات السياسية والاقتصادية الثنائية مع السعودية". انتهى الأمر بتشكيل "فريق من الخبراء البارزين ذوي المعرفة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والسياق اليمني لفترة لا تقل عن سنة قابلة للتجديد بإذن".
ومن أبرز مهام اللجنة التي جاءت برئاسة التونسي كمال الجندوبي، بحسب ما يرد على موقع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، "رصد حالة حقوق الإنسان والإبلاغ عنها، استقصاء جميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وللمجالات الأخرى المناسبة والقابلة للتطبيق من القانون الدولي والتي ارتكبتها جميع الأطراف في النزاع منذ أيلول/ سبتمبر 2014...، كشف المسؤولين عنها حيثما أمكن، تقديم توصيات عامة عن توطيد احترام حقوق الإنسان وحمايتها وإعمالها، تقديم إرشادات بشأن الوصول إلى العدالة، والمساءلة والمصالحة ولأم الجراح حسب الاقتضاء، التعاون مع السلطات اليمنية ومع جميع أصحاب المصلحة، لا سيما وكالات الأمم المتحدة المعنية والمكاتب الميدانية للمفوضية السامية في اليمن وسلطات دول الخليج وجامعة الدول العربية بهدف تبادل المعلومات ودعم الجهود الوطنية والإقليمية والدولية الرامية إلى تدعيم المساءلة عن انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان في اليمن. إحالة تقرير كتابي شامل إلى المفوض السامي بحلول موعد انعقاد الدورة التاسعة والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان تليه جلسة تحاور".
وهو ما حصل بالفعل، ونجحت اللجنة في إصدار تقرير أعلنته نهاية أغسطس/ آب الماضي. التقرير خلص إلى أن الضربات الجوية للتحالف تسببت في "معظم الخسائر التي لحقت بالمدنيين"، وأنه على "مدى السنوات الثلاث الماضية أصابت الضربات الجوية مناطق سكنية وأسواقاً وجنازات وحفلات زفاف ومرافق احتجاز وقوارب مدنية وحتى مرافق طبية". كما تطرق إلى بدء ظهور "تقارير متسقة عن ارتكاب انتهاكات في مرافق الاحتجاز أو المراكز غير المعلنة الخاضغة لسيطرة الإمارات"، مشيراً إلى تعرض المحتجزين "للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية"، بما في ذلك العنف الجنسي. كذلك رصد التقرير انتهاكات الحوثيين، بما في ذلك تعرض المدنيين بمن فيهم نساء وأطفال للقصف ونيران القناصة.
لم يعجب التقرير الحكومة الشرعية ولا التحالف. الحكومة قالت إن اللجنة في تقريرها قد جانبت "معايير المهنية والنزاهة والحياد والمبادئ الخاصة بالآليات المنبثقة عن الأمم المتحدة، وكون هذه المخرجات قد غضّت الطرف عن انتهاكات جماعة الحوثي للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني". كذلك رفض التحالف مخرجات التقرير، متهماً إياه، بحسب ما قال المتحدث باسم التحالف العقيد تركي المالكي، بأنه "وقع في العديد من المغالطات المنهجية وفي توصيفه لوقائع النزاع والتي اتسمت بعدم الموضوعية، خاصة عند تناول أطراف النزاع في اليمن، ومحاولاته تحميل المسؤولية الكاملة لدول التحالف بشأن النزاع في اليمن...".
وبناء على ذلك، عندما حان موعد تجديد عمل اللجنة، رفضت الحكومة اليمنية والسعودية والإمارات التمديد لأعمال اللجنة في اليمن. لكن لم تمض الأمور بحسب ما يريد التحالف والحكومة الشرعية بعدما تم التصويت الذي انتهى بتأييد 21 دولة من أصل 47 لقرار التمديد، في مقابل 8 أصوات ضده وامتناع 18 دولة.
رئيس فريق لجنة الخبراء الخاصة باليمن، كمال الجندوبي، وفي حوار على قناة الجزيرة قبل أيام، اعتبر أن تمديد ولاية اللجنة دليل على أن جزءاً لا بأس به من المجموعة الدولية يريد أن يذهب أبعد لمعرفة حقيقة الانتهاكات الجسيمة في اليمن. أما رسالة التقرير الذي أعدته اللجنة فلخصها بأنه لا يمكن لأفراد يشتبه بارتكابهم جرائم حرب أن يتم إعفاؤهم من المسؤولية. أما متى يحدث هذا، اليوم أو غداً أو بعد غد، فهذا أمر مختلف.
واعتبر أن الحكومة اليمنية وباقي الأطراف لديهم قراءات سياسية وجيوسياسية للتقرير، "أما نحن، فما يهمنا هو انعكاس ما يجري على حياة المدنيين والبنية التحتية المدنية، مثل المستشفيات، وقناعتنا أن دور مجلس حقوق الإنسان والتقارير التي تصدر يتمثل في لفت النظر وتحمّل الناس مسؤولياتهم أمام الرأي العام والتعامل مع المأساة بمسؤولية".
كما ذكّر بأن دور اللجنة ليس الإدانة بل توثيق المعلومات والأحداث والظروف التي جاءت فيها ورفعها. أما الإدانة فمسؤولية الجهات القضائية المختصة، التي يجب أن تحقق في المعلومات.
وعندما سئل عن اللائحة السرية التي تضمنها تقرير لجنة الخبراء، والتي تضم شخصيات عدة تحوم حولها شبهات بالتورط في جرائم الحرب، شدد على أنها تأتي ضمن عملية التوثيق. وأوضح أن التقرير، بما في ذلك اللائحة، وصل إلى أعلى جهات في الأمم المتحدة، لكن وجود آلية أخرى للمحاسبة مهمة يحددها مجلس الأمن أو جهات أخرى معنية.
وبخصوص رفض الحكومة اليمنية التمديد للجنة التحقيق الدولية، قال الجندوبي، في حواره مع قناة الجزيرة، إن العديد من فرق الخبراء عملت على أوضاع تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان من دون أن تكون لديها إمكانية الدخول إلى هذا البلد. وأوضح أن "عدم الوجود المباشر للجنة احتمال قائم، لكن توجد آليات أخرى يمكن الاستناد إليها للتوثيق، مثل المكتب المحلي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي يوثق منذ 2015 العديد من الانتهاكات والأحداث ولديه قاعدة بيانات مهمة". كما أشار إلى أنه توجد مصادر أخرى يمكن الاعتماد عليها، بما في ذلك الالتقاء مع شهود يمكن أن يحدث في أماكن قريبة من اليمن إذا تم منع اللجنة من الدخول. كما يمكن التوصل إلى المعلومات، سواء عن الضحايا أو غيرهم بطرق عدة.
وشكل الحوار فرصة للتوقف عند ملاحظات الخبراء بشأن اللجنة الوطنية التي تريد الحكومة الشرعية أن تناط بها مهام التحقيق فقط، قائلاً إن اللجنة ضرورية في كل الحالات، ويجب دعمها والدفع بها لتقوم بمهامها بكل مهنية وحيادية واستقلالية حتى تتمكن من القيام بعملها، لأن هذا العمل من النقاط الأساسية التي ستقوم عليها لاحقاً عملية المساءلة وعمليات أخرى. لكنها، وعلى حد قوله "هي لجنة حكومية ويجب أن تكون أكثر استقلالية وحيادية ومهنية وأن تتمكن من الذهاب إلى كل الأماكن في اليمن ولا تكتفي بأماكن محصورة".
وفي ما يتعلق بالفريق المشترك من أجل تقييم الحوادث، قال إن الفريق مرتبط بصورة عضوية مع التحالف وغير مستقل ويمكن طرح تساؤلات عدة حول الاستنتاجات التي توصل إليها، وإن كان أخيراً هناك اعتراف بأخطاء وبروز إرادة للتعويض وجبر الضرر.
وفي السياق، قال مصطفى الجبزي، وهو كاتب وباحث يمني مقيم في فرنسا، في حديث مع "العربي الجديد"، إن مخرجات مجلس حقوق الإنسان هي أخلاقية في المقام الأول وتصدر عن هيئة سياسية، لأن آلية اتخاذ القرار تتم عبر معترك سياسي. لكن فاعلية القرار تأتي من مستوى آخر وهو مجلس الأمن والذي يقرر إحالة حالة ما إلى محاكمة دولية. ولفت إلى أن اليمن ليس طرفاً في اتفاقية نظام روما وتحويله إلى محكمة دولية (الجنائية الدولية) أمر مستبعد.
ووفقاً للجبزي، اتخذ اليمن موقفاً جعله يتعاون مع مجلس حقوق الإنسان عند مستوى معين وهو مستوى التعاون التقني لدعم اللجنة الوطنية (المشكلة من الحكومة)، مقابل رفضه لقرار آخر متعلق بعمل لجنة الخبراء الدوليين. واعتبر أنه كان يتعين على المجلس استنفاد خيار اللجنة الوطنية من أجل الانتقال إلى لجنة دولية.
وفيما أوضح أنه من حق اليمن أن يرفض، أشار إلى أن موقف الحكومة بعدم التعاون مع لجنة دولية تحقق في انتهاكات من طرف الدولة والتحالف، يضعف حجتها وموقفها الأخلاقي تجاه شعبها أولاً.
أما الصحافي اليمني المقيم في جنيف، صدام أبو عاصم، فقال في حديث مع "العربي الجديد"، إن قرارات مجلس حقوق الإنسان ليست ملزمة للحكومات لكن تنفيذها يبقى واجباً أخلاقياً أكثر من كونه إلزامياً، خصوصاً أن اليمن ليس عضواً في مجلس حقوق الإنسان. وأعرب عن اعتقاده بأن "الحكومة اليمنية وحلفاءها في المنطقة سيواجهون ضغوطاً من أجل القبول والتعاون مع اللجنة، لأنها حكومة شرعية وليست مليشيا". ولفت إلى أنه ربما يحدث هذا التعاون "مقابل تغيير في آلية عمل اللجنة أو بعض أسمائها". وأشار إلى أنه في حال لم تسهل الحكومة عمل لجنة الخبراء وتساعدها في النزول إلى الميدان ستعتمد اللجنة على منظمات محلية في الميدان وستكون تقاريرها القادمة أكثر قساوة على الحكومة والتحالف العربي.