جلست الطالبة سما ليث مؤيد، على مقعد الامتحان في كلية الزراعة بجامعة الأنبار، تفكر في الإجابة على أحد الأسئلة، وهي تستجمع أفكارها، مجهدة من السفر بعد تهجير عائلتها من "الصقلاوية"، شمال الفلوجة، عقب هجوم قوات الجيش على حيهم. واجهت سما إرهاقها وما إن وضعت قلمها على الورق لتبدأ الاجابة، عاجلتها رصاصة قناص أصابتها في رقبتها ليملأ دمها أوراق الإجابة الفارغة.
استشهاد سما خلّف عدة احتجاجات من كادر وطلاب الجامعة، ظنّ الطلاب وأساتذتهم أن الهدوء سيعود لـ"الحرم" الجامعي الذي يفترض أن يكون آمناً، لكن عاجلتهم قوات الأمن باستهداف الجامعة مرة ثانية، السبت، خوفاً من سيطرة المسلحين كما زعمت.
"العربي الجديد" عايشت واقع وحال ومعاناة طلاب الأنبار، وتنقله في التحقيق التالي..
القتل للجميع
"الرمادي، مركز محافظة الأنبار، تحولت كلها إلى مكان للرعب والخوف الذي انتقل من البيوت للجامعة"، يقول الطالب الجامعي عمر (20 عاماً)، الذي يسكن الرمادي، مضيفاً: "إطلاق النار والقصف العشوائي، يطال البيوت والبنى التحتية في المدينة، ولم تسلم منه الجامعات بحرمها العلمي. حرب لا دخل لنا بها كطلاب وطالبات".
يتابع عمر: "ما يجري في الأنبار، غرب العراق، ما هي إلا حرب قرعت طبولها محطات من الخلاف السياسي، والطائفي، وتكبّد مخلفاتها الأهالي وطلبة الكليات. فقبل أيام، وصلت الاشتباكات قرب الجامعة، وانتقلت داخل أروقتها، والحمد لله أنه كان يوم عطلة، ومع ذلك وقع عدد من الضحايا بسببها، ناهيك عن أنها أصابت الطلاب بالخوف والهلع".
ووفقاً لجولة قام بها "العربي الجديد" في الأنبار، فإن جامعتي الفلوجة والأنبار وعشرات المدارس أصيبت بأضرار مختلفة بسبب العمليات العسكرية.
أبرز المدن التي شهدت أضراراً واسعة في المدارس والكليات، وفقاً لما رصدناه هي مناطق الفلوجة، والرمادي، والصقلاوية، والكرمة، والخالدية، والقرى والأرياف التابعة لها، الأمر الذي تطابق مع شهادة أدلى بها ناشط ميداني لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "لا توجد إحصائية دقيقة عن إعداد المدارس المتضررة، فيما يمكن القول إن اكثر المتضررين بين المؤسسات التعليمية في البنى التحتية هي جامعة الفلوجة وجامعة الأنبار"، مؤكداً أن الفلوجة وجميع مدراسها وكلياتها متوقفة عن الدوام منذ مطلع العام الجاري، بسبب العمليات العسكرية والقصف العشوائي الذي يطالها.
مصدر من داخل ديوان محافظة الأنبار، طلب عدم الكشف عن اسمه، اتهم قوات الجيش، وقوات "سوات"، بإطلاق النار بشكل عشوائي على كليتي الزراعة والمعارف، ما أدى إلى استشهاد الطالبة سما.
واضاف المصدر، لـ"العربي الجديد"، أن القناص لم يكن يقصد استهدافها، لأن الطلقات كانت عشوائية، لكن قوات الجيش قامت باستهداف المُسعفين من الطلاب بعد الحادث بشكل متعمّد، فيما تنفي الحكومة المركزية، في بغداد، تورط عناصر القوات الأمنية في الحادث، متهمةً أطرافاً أخرى من أطراف النزاع في الرمادي من المسلحين وفصائل المقاومة، بالتسبب بقنص الطالبة".
واعتبر مفتي الديار العراقية، الشيخ رافع الرفاعي، أن الجريمة شاهد جديد على جرائم مَن ينشر الجهل ويحارب العلم، قائلاً، في بيان صحافي صادر عنه، إن "الطالبة سما حازت على شهادة تغنيها عن شهادة الجامعة".
معاناة مستمرة
وكانت محافظة الأنبار دخلت منذ 6 أشهر في حرب دامية، في كبرى مدنها، الفلوجة والرمادي، غير أن الأخيرة عادت إليها معالم الحياة تدريجياً، وافتتحت فيها من جديد بعض المحال التجارية والمدارس والجامعات، حيث أعاد الأهالي إرسال أبنائهم إليها، وهو ما توقف بعد استهداف "سما" وزملائها بطلقات القناص التي أصابت مباني كليتي المعارف والزراعة، شرق المدينة.
وأدت الحرب الدائرة في الأنبار إلى تهجير العديد من العوائل والطلاب إلى مناطق وجامعات أخرى، من بينهم مصطفى، أحد الطلاب الذين هاجروا من الأنبار إلى بغداد لإكمال دراسته هناك، حيث قال لـ"العربي الجديد": "أنا مستاء بشدة من الحال الذي وصلت إليه وزملائي، فبالإضافة إلى أننا غير آمنين على حياتنا داخل بيوتنا، أصبحنا أكثر خوفاً داخل حرم جامعتنا من دون ذنب".
وأوضح مصطفى الصعوبة التي واجهها في عمليه إدماجه وانتقاله إلى جامعة جديدة بعدما أتمّ أربع سنوات من حياته في جامعة الانبار، قائلاً: "أحاول عبثاً التكيّف مع المكان الجديد، ومتابعة تعليمي في جامعة بغداد، وطموحي أن أتخرّج هذا العام".
"الرعب والخوف سكنا في نفوسنا"، يقول حسان، أحد طلاب كلية الزراعة، الذي كان موجوداً في القاعة التي فقدت فيها الطالبة سما ليث حياتها. أضاف، متوتراً في شهادته على الحادثة، لـ"العربي الجديد: "عشت أنا وزملائي لحظات عصيبة وخوف من القتل، فلم أكن بعيداً عن الطالبة سما، وكنا نستعد للاجابة على أسئلة الامتحان، وفي الاثناء استهدفت الكلية بإطلاق نار تبيّن لنا أنها طلقات قناص، فهرب الجميع من القاعة، وكانت الطالبة سما في مكانها ثابتة، ولم تتحرك، فعلمنا أن القناص قد أصابها في رأسها ففارقت الحياة".
يتابع حسان حديثه بأسى: "عدنا إلى المكان بعد الحادث بلحظات فزادت حدة الهجوم وزخات الرصاص التي استهدفت مجموعة من الطلبة داخل الكلية ممّن حاولوا إسعاف سما".
أضاف: "لم نكن نتوقع أن يتم استهدافنا داخل حرم الجامعة بعد أيام من الدوام، والحياة الطبيعية في الكلية، حيث كنا نحثّ زملاءنا واصدقاءنا المتخلفين عن الدوام بأن يأتوا ليكملوا العام الدراسي وما تبقى منه". واختتم حسان شهادته متمنياً ألا يسقط ضحايا من جديد بين الطلاب.
أسامة، طالب في هندسة الحاسوب بجامعة الانبار، قال لـ"العربي الجديد": "قمت بالالتزام بالدوام، وببرنامج عملي للحضور، وحفظت مواعيد المحاضرات والامتحانات، لكني بعد ما حدث أرى في وجوه الكثير من الطلبة، وانا منهم، اليأس والإحباط جراء العمليات العسكرية في المحافظة".
زيد، طالب لغة إنجليزية، اتفق مع أسامة قائلاً، بوجه محبط: "كنت قد قررت أن أتدارك ما تبقى من العام الدراسي خشية خسران السنة الدراسية، ولما علمت أن الامتحانات النهائية على الأبواب، شددت الرحال إلى الجامعة، لكن الخوف من القتل بعد استهداف الجامعة قضى على أحلامي في إكمال عامي الدراسي".
وأثناء حديثنا مع زيد حول أمور الدراسة، هزّ الجامعة صوت انفجار ليس ببعيد، ظهر الارتباك والخوف على ملامحه، فتدارك الموقف، وتندّر باللهجة العراقية: "هو شنو الانفجار؟ أصلا عاتي (جبّار)". سألناه هل قررت الامتناع عن العودة للجامعة مرة ثانية واكمال الدراسة بعد الانفجار؟ أجاب، لا سأعود.