طـوبى للمقـاومـة في عـيدها
في السابع من ديسمبر/كانون الأول عام 1987، تحولت حادثة الدهس المتعمدة التي تعرض لها أربعة من العمال الفلسطينيين، وأودت بحياتهم، بواسطة شاحنة يقودها مستوطن يهودي، إلى الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية، في الأراضي المحتلة عام 1967.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى ما يزيد على ستة أعوام لاحقة، خاض الشعب الفلسطيني، المنتفض والأعزل، واحدة من أشمل وأشد حروب الاستقلال الشعبية، حيث سقط آلاف الشهداء وعشرات ألوف الجرحى وكذلك المعتقلين.
وفي الوقت نفسه، والظروف نفسها، ولدت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وتوقع كثيرون لهذه الحركة الاندثار والاضمحلال، واعتبروها مجرد حالة عابرة، اعتلت أمواج الانتفاضة، ولن تلبث أن تتلاشى تحت وطأة ضغوط الاحتلال، وقلة الموارد والإمكانات، والازدحام الفصائلي في الساحة الفلسطينية. ولكن، بعد 27عاماً من قيام "حماس"، بدت هذه التوقعات مجرد فقاعات في الهواء، حيث تمكنت "حماس" من مواصلة النضال ضد المحتل، في ظروف صعبة للغاية، وصقلت الانتفاضة الشعبية المباركة الأولى "انتفاضة الحجارة" (1987 ــ 1993)، وانتفاضة الأقصى المباركة (2000 ـــ 2005)، والحروب والاجتياحات المتكررة للأراضي الفلسطينية، حركة "حماس" وأكسبتها تجربة نضالية متميزة في سجل جهاد الشعب الفلسطيني، وقدمت الحركة قائمة طويلة من النماذج الفذة، والبطولات الأسطورية، حتى غدت وشهداؤها ورموزها وكتائبها عناوين محفورة في ذاكرة الشعب الفلسطيني.
لم يكن الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1987 يوماً عادياً. إنه اليوم الذي برز في تاريخ القضية الفلسطينية، والذي نهضت فيه الحركة الإسلامية من تحت ركام وأنقاض الدمار الذي خلفه الاحتلال، لتعلن فيه عن ميلاد حركة مقاومة كبيرة، يلفها بركان الغضب وتحفها رعاية الرحمن، وتسطر بدماء أبنائها أروع ملاحم البطولة والتضحية والفداء، في زمن عز فيه الرجال.
واليوم، يمضي على انطلاقتها 27 عاما، وهي ما زالت تقدم وتبذل خدمة للدين والوطن، استطاعت خلالها أن تبدل الأوضاع، وتغير الظروف والمجريات.
27 عاما أصبحت الحركة فيها رقما صعبا لا يمكن تجاوزه.
27 عاما على انطلاقها وما زال عودها حياً، يافعاً، قوياً، ترويه دماء الشهداء، ويزهو في عنان السماء. 27 عاماً على هذه الشجرة المباركة، وما زال أصلها ثابتاً، وفرعها في السماء. 27 عاماً على هذه الحركة الفتية غيرت خلالها وجه التاريخ الفلسطيني، ورسخت لمرحلة جديدة من مراحل الصراع العربي الصهيوني.
27 عاما قفزت الحركة فيها قفزات نوعية في طريق الجهاد والمقاومة، وكان لها الدور الأبرز في الخط الجهادي على ثرى فلسطين الحبيبة.
برهنت حركة "حماس" على قدرة متميزة في امتصاص الأزمات، وآثارها، بتجميع الأفراد والخلايا وإجراء عمليات التنظيم والترتيب، حسب الحاجة والظروف، سواء في صفوف القيادة والكوادر، أم على مستوى القاعدة والمجموعات الصغيرة المنتشرة في المناطق الفرعية والأحياء.
وأثبتت كتائب الشهيد عز الدين القسام، بعملياتها الفدائية النوعية التي اتسمت بالجرأة المتميزة والتخطيط الدقيق والسيطرة على الموقف عند التنفيذ، وبأنها أقوى من كل مخططات الصهاينة الذين يسخرون كل طاقات أجهزتهم الأمنية والاستخبارية وأدمغة مفكريهم وخبرائهم العسكريين.
ومن نافلة القول إنه ما دامت هناك فئة نذرت نفسها للجهاد في سبيل الله، فإن بركات ذلك الجهاد سوف تظهر تترى، وهو ما بتنا نلحظه بادياً للعيان، في حرب "العصف المأكول" من الإنجازات النوعية المهمة لشعبنا الفلسطيني.
ويأتي هذا التطوير النوعي لسلاح المقاومة في مواجهة العدو المعتدي متناسباً ومتناسقاً مع سنة بشرية، قدرها الله عز وجل، وزرعها في الإنسان منذ بدء البشرية، بحقه في الدفاع عن النفس، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى اعتبار أن التسلح وامتلاك السلاح، وهو من مستلزمات الجهاد الذي هو واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولارتباط الواجب بالثواب في حال القيام به كان التسلح وتطوير السلاح هو كذلك طاعة لله يؤجر عليها المجاهدون.
تدرج الفلسطينيون في امتلاك السلاح، وكانوا، في كل مرة، يسعون إلى استخدام الأجدى وفق استطاعتهم، فبدأ ذلك بانتفاضة الحجارة، مروراً بوسائل قتالية كثيرة، طورتها وامتلكتها كتائب القسام.
ولم يتوقف الابتكار القسامي عند حد معين، بل كشفت عن مزيد من الأسلحة، الأكثر تطوراً التي أفشلت العدوان على قطاع غزة عام 2008 ــ 2009 (حرب الفرقان)، والتي أجبرت قادة العدو الصهيوني على وقف إطلاق النار من جانب واحد، من دون تحقيق أي من أهداف الحرب.
وفي حرب الأيام الثمانية "معركة حجارة السجيل"، استخدمت كتائب القسام، لأول مرة، صواريخ بعيدة المدى، بعضها محلي الصنع، ضربت حتى 80 كلم في هرتسيليا، ودكت، لأول مرة في تاريخ الصراع، مدن تل أبيب والقدس المحتلة وأسدود، وأرغمت قيادة الاحتلال على رفع الراية البيضاء.
وفي حرب "العصف المأكول"، استطاعت المقاومة الفلسطينية، بكل فصائلها وقواها المسلحة، وبشعبها الأبي، أن تصمد أمام آلة الحرب الصهيونية بكل أسلحتها البرية والجوية والبحرية مدة 51 يوما، حيث شارك في العدوان أكثر من مائة ألف جندي صهيوني، وأوقعت المقاومة في صفوف العدو مئات القتلى والجرحى، وأسر عديدون من جنوده.
شكلت حرب "العصف المأكول" انعطافا حقيقيا في التاريخ الفلسطيني، حيث أسست لاستعادة المسار الوطني الاستراتيجي، وهو مسار التحرير والعودة إلى فلسطين، وفي هذه الحرب، انحازت الأمة إلى خيار المقاومة.
ولأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، تقصف المقاومة المدن والبلدات الصهيونية في فلسطين المحتلة، من المستوطنات القريبة من قطاع غزة إلى مدن حيفا والقدس وتل أبيب واللـد والرملة وبئر السبع ومطار نيفاتيم العسكري ومطار اللـد، الذي أغلق أياماً عديدة، ومفاعل ديمونا في صحراء النقب.
وقد أرسلت كتائب القسام طائرات من دون طيار لتصوير مواقع العدو، أطلقت عليها اسم "أبابيل1"، وحلقت إحداها فوق وزارة الدفاع الإسرائيلية.
لم تتوانَ حركة "حماس"، لحظةً، عن تطوير قدراتها العسكرية، لتواجه بها أعداء الله الصهاينة، وإن كانت القوة التي تمتلكها لا يمكن أن تقارن بترسانة الاحتلال الأعتى في المنطقة، إلا أن هذه الحركة الربانية تمتلك من العقيدة والإيمان الراسخ ما يمكّنها من الانتصار في أية مواجهة بإذن الله.
أظهرت السنوات الـ 27 الماضية أن حركة "حماس" لم تعد قوة محلية، أو فصيلا فلسطينيا عاديا، فهذه الحركة التي لها رؤيتها ومشروعها السياسي الواضح، صمدت أمام التحديات، وتجاوزت كل محاولات التصفية والاستئصال، فصارت لاعبا أساسيا ورقما صعبا في المعادلة.
لم تقفز الحركة وجناحها العسكري إلى هذه المكانة المرموقة من فراغ، أو بين ليلة وضحاها، بل يمكن القول إن هذه المكانة جاءت امتداداً طبيعياً لتاريخ طويل من العمل والمثابرة، وسجل حافل من التضحيات والشهداء والمعاناة.
نجحت حركة "حماس" في البقاء، لأنها وضعت دائماً مصلحة الشعب الفلسطيني ووحدته، قبل كل شيء، في مقدمة أولوياتها، وبقيت رموز الحركة وقادتها عنواناً لمعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة، وتعبيراً عن حقه الضائع، وبقيت "حماس" ممثلة لإرادة الشعب الفلسطيني وتمرده ضد المحتل، على الرغم مما واجهته في سبيل ذلك، وظلت حدقات مجاهدي القسام، وفوهات بنادق كتائبهم، مصوبة باتجاه المحتل.
وما تحتاجه الحركة، هذه الأيام، أن تعمق رؤيتها بإلقاء نظرة نافذة صادقة إلى داخلها، وعلى كل ما حولها، وعبر كل ما جرى ويجري، لتتأكد من أن الكمائن التي نصبت لها، منذ نشأتها، قد ازدادت، وأن المطلوب، إسرائيلياً وإقليميـًا ودوليـًا، استدراجها إلى معارك جانبية، جماعية أم فردية، تحولها من أداة فعل وتخطيط إلى أداة ردود فعل وتبسيط، وتبعدها عن أهدافها الحقيقية.