طريق لا تؤدي إلى روما

19 سبتمبر 2014

قارب يحمل مهاجرين عرب قبالة ساحل لامبيدوزا (19 أبريل/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

اسمها لامبيدوزا، كما يُلفظ في الإيطالية، أو لنبيذوشة، بتعبير الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". وهي، على ما تقول الأخبار، باتت لا تقل حظاً عن صبرا وشاتيلا، أو غوطة دمشق، في الشهادة، على موت جماعي عربي، ما فتئ يتكرر، منذ عقود، بصورٍ مريعة، فيقيُدُه المجتمع الدولي ضد مجهول، وينساه في اليوم التالي.

تقع الجزيرة الملاحية المعزولة، لامبيدوزا، وفق ما ينقل "العلَّامة غوغل" عن سجلات "ويكيبيديا"، في عمق البحر المتوسط بين مالطا وتونس، وتبعد عن صقلية مائة وسبعين كيلومتراً، ومثلها عن ليبيا، بينما تتبع إدارياً إيطاليا.

من هنا، إذن، تمر الطريق الأقصر، إلى روما، سيقول لك نخاسو القرن الحادي والعشرين، كي يغروك بالفرار من موتك المشهود في شرق المتوسط وغربه، إلى موتك الغامض عند شواطئه الشمالية.

وإذ تدفع كل ما تملك، عربوناً، لحلم الهجرة من جحيم الجنوب، فإن رهانك على وسائل تنتمي إلى هذا الجنوب نفسه، بدءاً بالتجار عديمي الضمير، مروراً بخفر السواحل الذين يشبهونهم، وانتهاء بالقوارب البدائية المتهالكة، قد يجعل من جسدك، على الأرجح، طعاماً للسمك في شمال المتوسط، أو ما كان العرب يسمونه قديماً "بحر الروم"، وهي نهاية، تتيح للجميع فرصة التنصل من المسؤولية، عن إزهاق روحك، وأرواح مئاتٍ من رفاق رحلتك الأخيرة.

لن يرى العالم، حينها، أي ضحية تكابد نزعها الأخير، ولن يقف أحد شاهداً، كذلك، على طفلٍ يحاول عبثاً الإمساك بقطعة خشب، ليطفو معها، كما لن يعرف أيٌّ من الأحياء، في تلك اللحظة، أيضاً، انفعالات أمٍّ خطف الموج رضيعها من بين يديها، ثم ماتت، كمداً ربما، قبل أن تغرق.

لكن، ومع نشر صور غير واضحة المعالم، لجثثٍ تطفو فوق سطح الماء، بالمئات، سيتحدث الكل عن براءته، وقد يتبادل البعض مع البعض الآخر اتهامات ضمنية عابرة. سيقول الليبيون، مثلاً، إن "الحق على الطليان"، لأنهم وحدهم في هذا المدى الممتد بين شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، من يملك القدرة اللوجستية على إنقاذ المهاجرين بحراً، وسيرد هؤلاء بالقول إن المأساة وقعت في المياه الإقليمية الليبية، وإن سفن صيد إيطالية حاولت المساعدة، فمنعها خفر السواحل الليبي، ثم سيأتي من يقول، من القلة الناجية، إن سفينة مصرية، صدمت عمداً قارب المهاجرين، وأغرقته.

أتحدث، هنا، عن مثال واقعي، لا افتراضي. أتحدث عن ردود حقيقية، شبه رسمية، تلقيتها، وأصدقاء وزملاء، في مقدمتهم الدكتور عزمي بشارة، بعد اتصالات بسفارات وهيئات وشخصيات سياسية ودبلوماسية نافذة، لحضِّها على حث الدول المعنية، على تلبية نداء استغاثة هاتفي، أطلقه، عبر قناة الجزيرة، واحد من مئتي فلسطيني وسوري، كانوا مطلع الأسبوع الجاري، على متن قاربٍ يغرق، ولم تتحرك أي جهة لإنقاذهم فعلاً، فماتت أكثريتهم، في ساعاتٍ لاحقة.

بيد أن هذه الحادثة، ليست في الواقع، إلا واحدة من المآسي التي صارت تتكرر كل يوم تقريباً، فلا يراها المجتمع الدولي، إلا من زاوية مصالح أوروبا، وقدرة دولها على استيعاب مزيد من المهاجرين، بينما يغيب أي تحقيق، أو حتى اهتمام عالمي، بما إذا كانت دول بعينها قد سهلت هجرة هؤلاء إلى حتفهم، عبر موانئها، أو أن دولاً أخرى تجاهلت استغاثاتهم، وتركتهم يغرقون.

لا غرابة، طبعاً، في ذلك، ولم يكن من المتوقع أن يحدث عكسه، في عالم صمت أصلاً، بل تواطأ، على الأسباب التي تدفع الفلسطينيين والسوريين، نحو الهجرة من بلادهم المنكوبة إلى أوروبا، وهي الاحتلال الإسرائيلي العنصري، والدكتاتوريات الإرهابية الفاسدة.

تُرى؛ كم سفينة مهاجرين ستغرق في بحر الروم، وعند شواطئ لامبيدوزا، قبل أن نعثر جميعاً، على طريق أخرى إلى روما التي نشتهي، روما التي نقيمها على أرضنا، لتكون لنا؟.

EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني