طرد تونس من الجامعة العربية

17 أكتوبر 2019
+ الخط -
(1)
كنا نعتقد أن هناك حرصا على بقاء ورقة التوت على "جسد" النظام العربي الرسمي، إلى أن تداعى القوم على عجلٍ، لإدانة تركيا ونبع سلامها، باعتباره "عدوانا" على سيادة دولةٍ عربية، فسقطت ورقة التوت الأخيرة، وانطلق المغرّدون ينشرون مشاعرهم الساخطة والساخرة، من "الجامعة العبرية" وحكاية "السيادة" باعتبارها نكتةً سمجةً، لا وجود لها حقيقة، لا في تلك الدولة "المعتدى عليها" ولا في جمهرة المتداعين لحفلة الإدانة التي لا تعني، في كنهها، إلا انضمامها إلى آلاف الإدانات التي صدرت عنها، ولا تساوي الحبر الذي كتبت به.
اقترح مغرّد "خفيف الدم" على المجتمعين في مقر "الجامعة"، التي لا تجمع أحدهم إلا على باطل، أن يأخذوا قرارا بإدانة انتخابات تونس، وطردها من جامعة الدول العربية، بوصفها خروجا عن "الإجماع العربي"، وخرقا لميثاق الجامعة الذي وضع لتكريس الفرقة والتفتيت والتقسيم، وديمومة حكم "ولي الأمر" باعتباره ناطقا باسم السماء، وتحريم الخروج عليه، أو التدخل لإعانة مرتكب هذه "الكبيرة". .. وهنا تحديدا عند حكاية تونس، يحلو الحديث عن "الموجة الثالثة" من موجات الربيع العربي، وربما نعْي ما تسمى الثورة المضادة التي برعت، أخيرا، في تسجيل الإخفاق تلو الإخفاق، على الرغم من المليارات التي صرفت عليها، وعلى الرغم من دم كثير سفك لترسيخ شيطنة الربيع وأهله.
(2)
في المشهد التونسي، يمكن أن يقال إن تلك البلد "بصقت" في وجوه كل قادة وزعماء الثورة 
المضادّة (عذرا للتعبير الخشن) وأخرجت لهم لسانها، لأنهم أملوا أن تفشل، هي الأخرى، فيما فشلت فيه أخواتها، وكان ثمّة قول يسيل على ألسنة دعاة الثورة المضادة وأربابها، لكل من مجّد الربيع العربي واحتفى به: ألم تروا ما جرى في اليمن وليبيا وسورية؟ هل تريدون أن تلحقوا بلدانكم بذاك النمط من "الثورات"؟ يحق لنا، اليوم، القول لهؤلاء الذين صنعوا، بمالهم وتدخلاتهم، ويلات تلك البلدان: ألم تروا ما يجري في تونس؟ إلى ذلك، يحق لنا القول أيضا إن كل ما صنعتموه في تلك البلاد من تخريب، وتمويل للمخربين والقتلة والعصابات، لم يفلح في إخراجها من دائرة الانقلاب عليكم وعلى آمالكم، فلم يستقم الحال لأرباب الثورة المضادّة في أيٍّ من تلك البلاد، ولم يزل ثمّة أمل في مقاومة الخراب والتخريب. بمعنى أكثر وضوحا، لم تنجح الثورة المضادّة في تحقيق أهدافها الحقيقية. هي "نجحت" فقط في تأجيل الربيع، لكنها لم تنجح في استئصاله، بل على العكس، "نجحت" في تحريض الشعوب على الثورة، لأن وكلاء الثورة المضادّة أمعنوا في إذلال شعوبهم وتجويعهم، وهم بهذا يوفرون الوقود اللازم للموجة الثالثة من موجات الربيع العربي.
(3)
أما حكاية تركيا، و"عدوانها" على "سيادة" دولة عربية، فيختبئ وراء إدانتها جبل كامل من الحقائق المسكوت عنها، مما لا يجرؤ على التصريح به أحد ممن سارع إلى قذف تركيا بأبشع التهم.. ومن هذا الجبل من الحقائق مثلا:
أولا: في العام 2003، حينما قرّرت أميركا الاعتداء على "سيادة" دولة عربية تدعى العراق، رفض رئيس الوزراء التركي في حينه، رجب طيب أردوغان، استعمال أراضي بلاده للطائرات الأميركية للإغارة على العراق، كما رفضت تركيا فتح قواعدها العسكرية للقوات الأميركية أو السماح لواشنطن باستخدام هذه القواعد بأية صوره في حربها ضد العراق. في حين انطلقت طائرات العدوان الأميركي من كل أو أغلب البلاد العربية المحيطة بالعراق، ولم يتحدّث أحد يومها عن "احترام سيادة" دولة عربية. وفيما بعد، وبعد سنوات طويلة، وعقب اندلاع ثورات الربيع، باركت أنظمة "الجامعة" إياها ومولت التدخل في الشأن الليبي والسوري واليمني، واعتدت طائراتها وجنودها على أطفال العرب ومدارسهم وبيوتهم، وأحالت حياتهم إلى جحيم، وتجمعاتهم السكنية إلى خرائب، فعن أي سيادةٍ تتحدثون؟
ثانيا: يحاول إعلام الثورة المضادّة شيطنة تركيا وزعيمها أردوغان، بكل ما أوتي من قوة، ليس حرصا على الأكراد وحقهم في تقرير المصير، ولا بكاءً على سيادة بلد لم يعد يعرف معنى 
السيادة، فقد أصبح ملعبا لكل هاوي لعب، ومسرحا لتجريب الأسلحة الجديدة التي ينتجها القتلة الكبار، بل لأن هذا البلد، والرجل الذي يقوده يذكّرهم بما فقدوه، الكرامة، وهو يكسب كل يوم جمهورا جديدا وتعاطفا مضطردا من بين شعوبهم المقهورة التي ترى كيف تصعد تركيا وتزدهر، وكيف يدبّ الخراب في بلادهم. وخطورة طيب أردوغان أنه يتحدّث بلغةٍ يحتقرها سادة النظام العربي الرسمي، ليس لأنها سيئة، أو غير قابلة للتحقيق، بل لأنهم لا يقدرون عليها، فهي تذكّرهم بعجزهم وهوانهم، (من باب المقارنة يكتب أحدهم: يقول أردوغان في خطابه أخيرا: "نحن لا نشك في الوضوء حتى نشك في الصلاة". وهذه الجملة فهم لقاعدة فقهية أصولية فحواها "اليقين لا يزول بالشك". وقال عبد الفتاح السيسي في خطابه أخيرا: "أصبحت مصر كالمرأة التي كشفت ظهرها وعرّت كتفها"، مشتقة من التوراة، وفهم لسفر حزقيال كاملاً). يُنظر إلى أردوغان باعتباره امتدادا للأمل الذي بعثه الربيع العربي. لهذا عليهم أن يشيطنوه ويلعنوه، كما فعلوا مع الربيع ومع أحد أنبل منتجاته: رئيس مصر المنتخب محمد مرسي رحمه الله، وربما يفعلون الشيء نفسه مع "الطبعة المزيدة والمنقحة" من مرسي، الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد، ومن ثم طرد بلاده في "الجامعة"، أو تجميد عضويتها في هذه الجامعة التي لا مكان فيها إلا لمن يؤمن بالسيادة بمفهومهم هم، سيادة تخلو من الكبرياء القومي والكرامة العربية.
A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن