طرابلس اللبنانية تُقتل بصمت

 يصل صوت المتّصل من طرابلس، شمالي لبنان، مترافقاً مع صوت القذائف. الصوت بذاته ضعيف. مكسور. تَعِب. تماماً كحال المدينة التي تعيش على وقع الاشتباكات منذ عشرة أيّام. وصل عدد القتلى إلى 24، ومن المرجح أن يرتفع، بسبب الحالات الخطرة بين الجرحى الذين باتوا بالعشرات.

استخدم المتقاتلون بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة، فضلاً عن الأسلحة الخفيفة، مدافع الهاون، وذلك في الجولة العشرين من المعارك الدائرة منذ السابع من مايو/أيار 2008. 

وفي الجولة الحالية، دخل عامل جديد، وهو العبوات الناسفة التي استهدفت الجيش اللبناني. تكرر هذا الأمر مرتين، العبوة الثانية انفجرت فجر اليوم الجمعة، بالقرب من غرفة الصناعة والزراعة والتجارة في المدينة، وهي منطقة خارج دائرة الاشتباكات التقليديّة.

"طرابلس متروكة"، يُكرر المتصل. تتعاطى وسائل الإعلام المحليّة مع هذه الجولة بكثير من اللامبالاة. "في الجولات السابقة، كانت وسائل إعلاميّة تُبقي مراسليها طوال النهار وتفتح الهواء في تغطية مستمرة. هذه المرة بالكاد يأتون إلى المدينة"، على حد تعبير أحد المشايخ السلفيين، وهو على صلة جيدة بوسائل الإعلام. لقد حاول الرجل مع وسائل إعلام عدة، وفشل في جعلها تُثير هذه القضيّة.

لا يتعاطى السياسيّون مع هذه الجولة بشكلٍ أفضل. لم يزر وزير الداخليّة، نهاد المشنوق، المدينة بعد. لم يصدر عنه أيّ تصريحٍ في هذا الخصوص. لا يختلف الحال مع وزير العدل، ابن طرابلس، اللواء أشرف ريفي. مرّت طرابلس بشكل هامشي في نقاشات النواب في جلسات نقاش البيان الوزاري للحكومة في اليومين الماضيين. لا توجد أية مبادرات لتهدئة الوضع حتى اللحظة.

ميدانياً، انكفأ الجيش. لم يعد يردّ على مصادر النيران. بات واضحاً أن لا غطاء سياسياً له بعد ليتدخل. يُكرّر العديد من ساسة طرابلس هذا الكلام. يُضاف إليه أن نظرة اللبنانيين إلى الجيش لم تعد موحّدة. هناك من يرى أن الجيش يميل إلى طرف على حساب آخر. جاهر النائب في كتلة المستقبل، خالد الضاهر، بذلك خلال الجلسات النيابيّة. كما ارتفعت حدة الخطابات المذهبيّة في المدينة. بات يُمكن لمن يزور صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لهذا الطرف أو ذاك، أن يُدرك حجم المصيبة. لا يختلف كلام "قادة المحاور" كثيراً عن حديث هذه الصفحات.

طرأ جديد في اليومين الماضيين، بالاضافة إلى موضوع العبوات التي تطال الجيش. دخل شمال لبنان نحو 80 مقاتلاً لبنانياً وسورياً ممن كانوا يُقاتلون في قلعة الحصن السوريّة. وصل معظمهم إلى طرابلس. هؤلاء متمرسون بالقتال، تدريبهم جدي، وخبراتهم كذلك. قاتلوا الجيش السوري لأكثر من سنة في تلك المنطقة، قبل أن ينسحبوا ويتركوا خلفهم نحو 13 قتيلاً، كما يقول مَن وصل منهم إلى لبنان. موقف هؤلاء متشدد إزاء جبل محسن (حيث تعيش غالبية علوية محسوبة على أنها موالية للنظام السوري)، أو من الجيش اللبناني، كما تُشير مصادر إسلاميّة طرابلسيّة. مشاركتهم في القتال في طرابلس ستُحدث تطوراً جدياً في المشهد هناك.

تنتظر عشرات العائلات وصول الخبز إليها وهي شبه محاصرة في منازلها عند محاور الاشتباكات التي توسّعت. أقفلت الجامعة اللبنانيّة في المدينة أبوابها بسبب الأخطار الناتجة عن رصاص القنص لقربها من المحاور. حال العديد من المدارس مشابهة. يُمكن للحكومة أن تعلن طرابلس منطقة منكوبة لو أرادت. تراجعت الحالة الاقتصادية بشكل كبير. سيطر الرعب والتعبئة على النفوس. طرابلس تستغيث. لكن أحداً لا يسمعها في لبنان. تبعد عاصمة لبنان الثانية 80 كيلومتراً عن بيروت، لكنها تبعد كثيراً عن العقل الذي يُدير الدولة في لبنان. 

يتشارك الساسة اللبنانيون صمتاً مريباً حول ما يجري شمالاً. كأن المطلوب وضعها خارج الجغرافيا السياسية اللبنانيّة التي تُختصر في عقول الساسة اللبنانيين، ببيروت وحدها.