طالما طباخنا جعيص

04 يناير 2020
+ الخط -
منذ طفولتي، لم أحبّ الدمى البلاستيكية كما يفعل أطفال "العائلات الراقية" حسب قول أمي، كنت أشعر أنّ تنميط المرأة "كدمية" ذات ساقين رفيعتين، وخصرٍ نحيل، يدفعني لا شعورياً إلى تفكيك الدمية إلى أجزاء ثم رميها من النافذة إلى الشارع، خصوصاً أنّني كنت "سمينة" وفي روايةٍ أخرى لأمي وخالاتي "عجعوجة".

لم أكن أدرك وقتها أنني أثورُ على التنميط، وثمّة نسوية صغيرة في داخلي، دفعت والديّ للاعتقادِ بأنّني أملك جينات مختلفة عن باقي الأطفال، وطباعٍ غريبة، خالفت كل نظريات جان جاك روسو التي قرأ عنها أبي الكثير.

وعلى نهجٍ مختلف، بدأت الدراسة في سن الرابعة، إذ كانت أمي معلمتي لثلاث سنوات متتالية في الصف ذاته، الصف الأول، ثم في الصف الثاني، كانت الآنسة وداد التي طلبت من أحد زملائنا في الصف مرة، أن يتجه نحو السبورة كي يقرأ بصوت جهوري "الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". سألته الآنسة عن حرف الذال، وماذا يسمى باللغة العربية الفصحى، إلّا أنّ عبد القادر لم يملك الإجابة، فحوّلت السؤال لبقية الطلاب، لكنهم أيضاً لم يجيبوا، فنظرت إليّ وإلى صديقتي عائشة وسألتنا "ماذا يسمى هذا الحرف؟". تظاهرتُ أنّ قلمي الرصاص وقع تحت المقعد، فنزلت لأحضره، لأنني لم أكن أملك الإجابة حينها، لكن الآنسة وجهت السؤال ثانيةً لعائشة فقط. نجوتُ وقتها من السؤال، لكن بقي الإحساس بالذنب تجاه عائشة ينهش روحي بعد ذلك بسنوات عديدة.

لم تجب عائشة، فجذبتها الآنسة من جديلتيها بقسوة ورمتها أرضاً، وراحت تستدير حول نفسها بشكل دائري وتشحطها معها، حتى "مسحت بها الأرض" حرفياً. لا بد أنها أحست بالخجل والانكسار أمام الطلاب بلباسها المدرسي ذي اللون البيج المتسخ، وجديلتها اليمنى التي أفلتت من الشريطة المطاطية، والأخرى التي تدلت كأذن الكلب السلوقي. سَخر الطلاب من شكل جديلتيها، وأقسم أن أحداً منهم لم يكن يعرف أن حرف الذال هو من الأحرف اللثوية. ماذا لو لم أنزل أنا تحت المقعد؟ هل كانت الآنسة لتمتنع عن إعادة السؤال لكوني ابنة زميلتها في المدرسة؟ هل كنتُ سبباً بما حصل لعائشة؟!

عدتُ إلى البيت مع عائشة، وحلفت لها ألف يمين، أنّي لم أتوقع أن تفعل الآنسة ذلك، لكنها كانت مصدومةً صامتةً طوال الطريق. دخلتُ معها إلى بيتهم، فسارعت إلى المرآة ووقفت واجمةً أمامها، ثم بثانية واحدة أمسكت المقص وجذبت الجديلة اليمنى، وقصّتها. ركضتُ نحوها لأمنعها، لكنها وجّهت المقص نحو عيني، فتراجعت. حملت عائشة الشعر المقصوص وذهبت إلى المطبخ حيث أمها، خالة أم أيمن تقلي الباذنجان. فلحقتها، ورأيت بأم عيني صدمة والدتها بشعرها المقصوص، حيث سقطت الملعقة من يدها فوق وعاء الزيت المغلي، فانقلب الوعاء فوق عائشة ليشوي رقبتها وكتفها اليمنى. تلقت العلاج لمدة عام كامل، بقيت نصفه في البيت، والنصف الآخر عادت فيه إلى المدرسة، حيث تعرضت لأشد أنواع التنمر، الذي تراوح بين السخرية من جلد رقبتها "المقرمش" والاشمئزاز من المنظر المذيّل أحياناً بعبارة "الله يعافينا". ذات مرّة، كتبتُ في الواجب المدرسي لمادة التعبير، عن عائشة، في محاولة لا شعورية لتكفير الذنب تجاهها، وقلت إنني على ثقة تامة أن عائشة ستكون في الجنة، لأنّه حتى المذنبون، تشوى أجسادهم يوم القيامة، ثم ينتشلهم الله، ويضعهم في الجنّة، فتنبتُ جلودهم من جديد. أمّا عائشة فليست مذنبة، والله لا يكذب، و قد شُويت في الدنيا، إذن ستدخل الجنة فوراً لحظة وصولها للسماء. أذكرُ جيداً كيف نظرَ إليّ الأستاذ، ودقق النظر في ساقيّ، فلم أكن أرتدي بنطالاً تحت "الصدرية البيج"، بل فستان ميكي ماوس قصير، ثم قال "يا سيدي طالما طباخنا جعيص..."، لم أفهم قصده، وبقيت أنظر إليه بانتظار أن يكمل ويوضح قصده، فقال "بس تخبي سيقانك، يبقى احكمي مين بيدخل الجنة ومين لأ"! ضحك كل الطلاب، وأصبح لديهم حجة للتنمر علي أنا أيضاً، فأنا الطفلة المطرودة من الرحمة بسبب فستاني القصير!

CD7FA5C9-C0F0-4D5C-BA96-E0E74CC15275
هبة عز الدين

أحمل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، وحاليا أدرس الدكتوراه. نسوية.. أعمل في مجال حقوق الإنسان، وأكتب في العديد من المواقع.

مدونات أخرى