حين وصلت المذابح الطائفية في عام 1860 إلى دمشق، تحرّك العثمانيون والأوروبيون على السواء لوضع حد لتلك المذابح التي بدأت عام 1840 في لبنان، واستمرت على نحو متقطّع حتى وصولها إلى دمشق.
هذا التدخل القطعي والحازم في لحظة تاريخية ما، يعطي مؤشراً ولو طفيفاً لقصة الطائفية وعلاقتها بالسلطة والثروة والمدينة ومدى هامشية المدن أو مركزيتها، تبعاً لمركز القوة، سواء كان سلطوياً محلياً أو عالمياً، اقتصادياً أو اجتماعياً، ولمدى الفارق بين دمشق وبيروت حين النظر إليهما من زاوية علاقة كل منهما بالطائفية: صناعةً، وتشكلاً، وحضوراً اجتماعياً، وعلاقة بالسلطة والدولة، وعنفاً منفلتاً من ضوابطه..
قبل سلطة البعث ودورها في تغذية الطائفية السورية، كان لموقع دمشق وحضورها التاريخي وأهميتها الرمزية دورٌ في ضبط الطائفية أو تقييد صناعتها ضمن حدود معينة، فطبيعة المدينة الميّالة إلى المال ومسالمة الطغاة، من دون أن تستسلم لهم، فرضت نوعاً من حذر طائفي لا يعبّر عنه علناً، وإن كان الجميع يعترف بوجوده ضمناً، فهو من الأمور التي تؤخذ بعين الاعتبار عند اتخاذ القرارات من دون أن يعترف علناً بأنها لعبت دوراً في هذا السياق، خلافاً للبنان الذي مذ ولد يقول الأمور طائفية كما هي، فهو ولد برئاسة مارونية مذكّراً الآخرين بطوائفهم وأدوارهم ضمن نظام طائفي شبه واضح المعالم والحدود من دون أن يكون طائفياً نقياً بطبيعة الحال.
ولأن كل سلطة أو دولة تؤثر في البشر الواقعين في مجالها من خلال مؤسساتها وأمنها وقوانينها، تكوّنت في كلا البلدين طريقة مختلفة في التعبير عن الأمور الطائفية أو مقاربتها؛ فما يظهر في بيروت فجاً، واضحاً، صريحاً، كجزءٍ من هوية البلد وطبيعته وتركيبته، يظهر في دمشق مستتراً، معبّراً عنه بالإيماء والجلسات السرية، حاضراً من خلف ستار عبر مزحة أو نكتة أو زلّة لسان ترد عليها الجموع: "عيب هادا كلام طائفي"، وهي ذاتها (الجموع) التي لا تتوّرع عن إطلاق الكلام نفسه في مجالسها السرية.
ما سبق يعيشه الأفراد في كلا المدينتين بشكل طبيعي، من دون أن يشعروا به، فهو جزء منهم، تشرّبوه عبر سلطات (ليست سياسية بالضرورة) فرضت سيطرتها الغامضة، من غير أن يدركوا ذلك في أغلبهم، فغدا نوعاً من طبيعة تبدو ثابتة دون أن تكون كذلك، ودون أن يشعر بها المرء إلا حين ينتقل إلى مجال الآخر، فيبدأ يقيس ذاته على ضوء الآخر كما يراه ويعايشه، معيداً النظر بذاته ومتفكراً بها، وهذا ما حصل حين نزوح الكثير من السوريين إلى لبنان، فكان كل منهما مرآة الآخر.
لم يتعايش السوري بعد مع ذاكرة لبنان وتعبيراته الفجة، فهو رغم إقراره متأخراً بقوة الحضور الطائفي الذي اكتشفه في بلده سورية، إلا أنه غير قادر على أن يعترف بشرعية أن يتحول ذلك خطاباً يومياً، متأففاً وعلى نحو دائم من حضور الطائفية في الحياة الاجتماعية والطبيعية للبشر في لبنان حتى في اللحظة التي يتحدث بها هو عن الطائفية أو يعبّر عنها وهو يتجوّل في بيروت، حيث تُعرف طائفة سائق السرفيس مثلاً من أول سؤال يطرحه عليك أو من موقفه من الأزمة السورية أو رأيه بزعماء لبنان أو من الإذاعة التي يسمعها ( فالإذاعات مقسمة طائفياً أيضاً).
وهذا أمر يواجهه السوريون يومياً، ويعبرون عن ازدرائهم له بالقول: "العمى شو مجتمع طائفي"، لينتقلوا بعد قليل عن حديث طائفي يخص سوريتهم الجديدة، معبّرين بذلك عن كون حديثهم عن الطائفية مازال يعبّر عن نفسه بما تعلّموه في سورية، أي التحدث في الطائفية وممارستها دون الاعتراف بها، وهو أمر لا يزال يشكل طوق نجاة للسوريين، لأن رفض الشيء وعدم تقبّله، حتى وأنت غارق به، هو دليل على إمكانية الخروج منه، وهو ما يعبّر عنه السوريون صراحة حين يقولون أنهم لا يتمنون لبننة أو عرقنة سورية، فهل يصمد الأمر؟
قد يكون للجغرافية وموقع البلد الجيوسياسي دور أساسي في ذلك أيضاً، لأن الطائفية في نهاية المطاف تصنع بفعل محصلة قوى مكونة من داخل قابل وخارج ضاغط تتداخل وتتراكب مع عوامل طبقية سياسية اقتصادية. وهو ما يبدو أن دمشق حتى اللحظة تملك مقوّمات عدم الغرق به، ففي الحرب الأهلية اللبنانية غرقت بيروت بين غربية وشرقية بكل ما يحيل الأمر إلى انقسامات عديدة أقواها الطائفي الذي صمَد حتى بعد السِلم، في حين تبدو دمشق حتى اللحظة مقسّمة بين ريف مهمّش يحاصرها ومدينة محكومة من سلطة ارتبطت ببرجوازية مترفة ترتبط بالخارج بمصالح جيوسياسية واقتصادية تدفع الخارج لوضع الفيتو على دخولها، ما يشكّل غطاءً يحمي السلطة بفعل قرار دولي يحرّم على المعارضة دخول دمشق حتى اللحظة، وهو ما يعكس أهميتها في الحسابات الدولية ( كما في لحظة عام 1860)، وهو ما يبقي الصراع محدداً بإطار ما، مانعاً انزلاقه نحو طائفية صريحة.