طائرة الهوب هوب

08 يونيو 2020
+ الخط -
سافر صديقي على متن خطوط جوية كثيرة، ولكنه لم يجد أتعس من طيران الوطن المشهود له بطيارات أخرى تنطلق من راحة الكف، لتهبط بقوة على الرقبة أو الوجه، وتجعل الشخص الذي يتلقاها يترنح ويتمايل، ويتأهب للطيران دون جناح، ويحلق عالياً.

في الوطن وسائل نقل في الجو، تكاد تبزّ مثيلاتها في الدول الأُخرى، كـ(لوفتهانزا) وغيرها، مثل (بساط الريح) حيث ينتقل المسافر على متنه إلى عوالمَ من الألم والخوف، ويعتقد مَن يركب أنه يكاد أن يسافر إلى الرفيق الأعلى، حيث الراحة الأبدية.

يقول صديقي: عندما أسافر على خطوط جوية غير خطوط الوطن أُعجبُ بأناقة المُضيفات ولباسهنّ الجميل، ولطف حديثهنّ، حيث تبقى عيناك شاخصتين ترقبان أية نأمة تصدر منهنّ، وتنتظر لحظة توزيع الوجبة المقررة، لا لتأكل فقط، إنما لتحتكّ عن قرب بالمُضيفة الجميلة، وتسمع هسيس الصوت العذب، وقد أفتعل مشكلة في المقعد، أو المسند، أو حزام الأمان، لزيادة التواصل معها.

يكمل صديقي ويسألني: هل سمعت بطائرة "الهوب هوب"؟
أنا سمعت وكان لي شرف ركوبها، فقد حجزت يوماً على خطوط الوطن الجوية. كانت طائرة (إيرباص) رابضة على أرض المطار، ولها فعلاً منظر الطائرة، صعدنا إليها وليتنا ما صعدنا!

في داخلها اختلف الأمر، فلا المقاعد مريحة، ولا أماكن حقائب اليد (الهاند باك) في الأعلى تُغلق بشكل جيد، ولا تسمح لمَا وُضع فوق الرؤوس بأن ينهال عليها، وخاصةً إذا كان أحد الرؤوس أصلعَ لا شيء يحميه، أو يخفّف صدمة الارتطام.


كل شيء في هذه الطائرة يوحي بأنها طائرة (ستوك) كان يجب أن تذهب إلى مقبرة الطائرات، دون أن تُقام عليها صلاة الجنازة، أو قراءة الفاتحة، لأنها لا تستحق ذلك.

قال صديقي: تذمّر الركاب من الطائرة، وقال أحدهم: ما في مشكلة تحمّلوا كم ساعة لنصل بسلام. ورد آخر: هذه طائرة (الهوب هوب) الله يوصّلنا بالسلامة. وقال ثالث: لا تظلم طائرات الوطن.

هل رأيت في الطائرة أياً من العبارات التي تُكتب على حافلات (باصات) الهوب هوب، مثل: (لا تلحقني مخطوبة)، أو (العين التي لا تصلي على النبي تبلى بالعمى)؟!.. فلا تظلموا طائرة الوطن.

ويتلقف شخص يبدو عليه الوقار، ويقول: صحيح ما تقول لا تظلموا طائرة الوطن وطيرانه، ويتابع.. يعني كيف تكون طائرة (هوب هوب)؟. في الجو هل يوجد ركاب ليصعدوا، أو توجد مواقف لينزل أحد منا، كما هو الحال في (باصات الهوب هوب)؟.

بدأت الطائرة بالإقلاع، وأخذ يهتزّ ما بداخلها بعنف، وكأن هناك مشكلة حتى في دواليبها، ويبدو أنها لم تُبدّل من يوم وُضعت في الخدمة. أخذت الطائرة ترتفع رويداً رويداً، وشعر الركاب بتيار من الهواء يلفحهم، ولا يعرفون مصدره، فكأن هناك تسرباً للهواء، أو (شي بلّور شباك مكسور) كما قال أحدهم.

سيطر القلق والخوف على الركاب، وخاصة النساء والأطفال، ولهجت الألسن بالدعاء أن تمضي هذه الرحلة على خير. ثلاث ساعات من التوتر، ارتفع الأدرينالين عند الجميع، ولم يصدقوا أن الطائرة وصلت أخيراً، وأنهم تخلّصوا من الاهتزاز العنيف بفعل المطبات الهوائية التي تُذكّر بمطبات الطرق المرتفعة التي يُفاجأ بها السائق المُسرع، ويحاول تلافيها والتخفيف من شدتها في آخر لحظة، لتعلو السيارة قليلا وترتطم بالأرض، ومن عزم ذلك ينفتح صندوق السيارة (الباكاج).

ها هي الطائرة تهمّ بالهبوط، ليحيا الركاب دقائق من الرعب، كما حدث أثناء الإقلاع، لكن بشكل مضاعف. قال صديقي: كأن مكابح الطائرة محّتْ من كثرة الاستخدام، كدراجة ابني الصغير، وتحتاج إلى (فحمات) لضبط التوقف بشكل أفضل.

توقّفت الطائرة أخيراً، وحمد ركابها الله كثيراً أنهم وصلوا بسلام..
وتابع صديقي: بعد أشهر، وأنا أشاهد تلفاز الوطن أذاعوا خبراً عن وزير النقل، وقالوا بأن الوزير قام بشراء بضع طائرات خربة ومستعملة من إحدى الدول، وأجرى عليها الصيانة، وجلبها إلى الوطن على أنها جديدة، وطبعاً أُودعَ الوزيرُ السجن.

قال صديقي : طائرة ( الهوب هوب ) التي سافرنا بها هي إحدى طائرات الوزير الذي قال بعضهم بأنه مظلوم، ولا يتحمّل صفقة الطائرات (الستوك) هذه.

قلت لصديقي: حدّثتَنا عن المضيفات، ونسيتَ أن تحدثنا عن رَكْبِنا الطائر، ومضيفاتنا؟

قال: لا شك عندنا مضيفات جميلات خضعن لدورات تأهيل، وتدريب مكثفة، ليخرجن بأفضلَ ما تكون الكياسة واللباقة، وبعضهنّ لهنّ عضلات أكبر من عضلاتي، فكأنهنّ تدربنَ في إحدى الفرق العسكرية. وأحياناً يكون الركب الطائر ذكوراً من مُضيفين خشنين لا نواعم بينهم، لهم بُنية جسمية قوية، كأنهم تابعون لأحد الفروع، تخشى من النظر إليهم، لكي لا تُرمى من الجو.

وبالتأكيد عند الوصول إلى مطاراتنا تنزل من الطائرة، وقلبك بين يديك خوفاً وهلعاً. تُسلّم الجواز في الكوّة المخصصة، وأنت تدعو الله ألا يكون هناك ما يسوء، ويزداد هلعك عندما يرمقك الموظف بنظرته الثاقبة المخيفة، وما إن يُختم الجواز حتى تتنفس الصعداء، وتحمد الله أنه لم يُطلَب منك أن ترافق الشباب الطيبة لأمر ما.