ضد الطائفية
المشرق العربي مشتعل بحروب طائفية، لم تبقِ قريةً، ولم تذر مسجداً، إلا وأحرقته. دول الهلال الخصيب في حالة انهيار كامل. المجتمعات العربية المعروفة بتنوعها، وحضارتها، وتسامحها، انخرطت في حربٍ أهليةٍ لم يسبق لها مثيل في تاريخنا الحديث، من دون أدنى مبرر أخلاقي، سوى التسابق على الظفر بحصةٍ سياسيةٍ أكبر على الخارطة الوطنية.
يُساجل بعضهم بأن الطائفية نتيجة خطاب ديني متطرف، يتم تغذيته عن طريق رجال الدين، فما أن يصمت رجال الدين عن الكلام، حتى تعود المياه إلى مجاريها بين المذهبين الأكبر في الإسلام، لكن المتفحص للطائفية، ولحروبها المنتشرة، يلحظ، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها منتج سياسي. وما الطائفة، وطقوسها، وزعاماتها، إلا أدواتٌ، تم العبث بجيناتها، فتحولت من مذهبٍ ديني يُنظم به الإنسان علاقته بربه، إلى جماعة عصبوية في حالة حرب وجود، متأهبة لخوض حرب مقدسة، لكي تفني الآخر؛ متلحفة بالتكفير السياسي تارة، وبالتكفير الديني تارة أخرى في سبيل شهوة السطوة على السلطة. يحدث هذا الانهيار الكبير حينما تغيب الهوية الجامعة وتتحول المذاهب الدينية إلى رافعة إيديولوجية لمشاريع سياسية متنافسة على السيطرة على مقدرات الأمة. أمة فككتها وأحبطتها الديكتاتورية، فأضحت أراضيها ملعباً مستباحاً للقوى الاستعمارية.
ما الذي أوصلنا إلى هذا الحضيض الطائفي؟ من المسؤول عن هذا التشظي والتداعي في الوطن العربي؟ هذه الأسئلة لا تُطرح في صالونات الطائفيين، لأن الجواب يبدو حاضراً من خلال رمي الكرة الطائفية في ملعب الطائفة الآخرى وأنصارها. فلكل طائفةٍ خطابها التبريري الذي تستقيل، من خلاله، عن مسؤوليتها التاريخية في مشاهدة الذبح المتبادل، والسكوت عنه. حتى المظلومية التي هي سلاح الأقليات باتت تنتقل من الشيعة إلى السنة، والعكس، بحسب سُحنة المُعارض والحاكم. بل أكثر من ذلك، هناك من صدَّق أن "السُنة" هم الأمة، وأن الشيعة هم الطائفة، وتالياً، فإن أي ظهور للطائفية هو نتاج وجود أقلياتٍ متمترسةٍ خلف طوائفها، فأعفى نفسه بذلك من المسؤولية، لكونه ينتمي للأغلبية، وبالتالي، هو ضد الطائفية بالفطرة. في المقابل، هناك طائفة "الشيعة" لازالت تنظر لنفسها كطائفة مظلومة، على الرغم من كل البطش الذي يمارسه حلفاؤها، ويتصرف محازبوها وسياسيوها مع الاستحقاقات الوطنية الكبرى، وفقاً لذلك الخطاب، وهي تحكم ثلاث دول على الأقل.
هذا الوحل سقط فيه مثقفون كثيرون، بعدما أصبحوا يتخندقون مع طوائفهم، أحياناً؛ بسبب المشاركة المباشرة في اللعبة السياسية، كما يحدث في لبنان والعراق وسورية، وأحياناً كثيرة، عن طريق الجهل في تشخيص الحالة الطائفية، باعتبارها خاصية دينية، كما يحدث في الخليج، فتركنا المرض يستفحل فينا، وانشغلنا بتبادل الاتهام عن تحديد من المسؤول وما سُبل الخروج.
ثمة دول إقليمية كبرى تستفيد من صعود المدّ الطائفي، فهي، في الأساس، دول قائمة على إيديولجية دينية، فتقدم نفسها حامياً ومدافعاً عن أبناء طائفتها، وتجعل من الانتماء المذهبي مبرراً كافياً لتدخلها في هذه الدولة، أو تلك، لحماية مصالح المنتمين له، بتقوية جماعات خارج الدولة ضد المواطنين الآخرين المنتمين لمذاهب مختلفة، فتساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي وتعزيز الطائفية أكثر. لا شك أن تعثر مشاريع النهضة العربية ساهمت، كذلك، مساهمة مميتة في ارتفاع حمى الطائفية، ولا شكَّ أيضاً، أن الحكومات الديكتاتورية التي حكمت دولاً في المنطقة باسم القومية، وفشلت في بناء الدولة الحديثة، ثم حوّلت بلدانها إلى مزارع تذرُّ على حكامها وعوائلهم ثروات هائلة من مقدرات الوطن قد عبّدت الطريق لمثل هذا السقوط، ولا شك، أيضاً وأيضاً، أن القوى الإقليمية الكبرى المناهضة للمشروع العربي قد استفادت من هذه الانتكاسة لتعزيز مشاريعها الطائفية. لكن، السؤال الأهم هو كيف الخروج من هذا المستنقع؟
هذه الحروب الطائفية، وهذا الدم القاني، وهذا التشرذم العربي، لابد وأن يُثير فينا شهية التفكير في حلول "خارج صندوق التفكير الطائفي". وعليه، لابد من اعتزال لعبة التلاوم؛ لأنها لن تقدمنا خطوة واحدة نحو الخلاص من هذا الموت اليومي، ولن تعيد ترميم بلداننا التي لم يبق فيها حجر على حجر، ولن تسمح بمداواة النفوس الممزقة بعد كل هذا الدمار.
خلاصة القول إن أسهل الطرق أصعبها. لذا، إن نقد الظاهرة الطائفية يحتاج لأخذ مسافة واضحة من المشاريع السياسية الطائفية والتقسيمية في الوطن العربي، والعمل على تقوية الوعي القومي، وحث الناس على إعادة النظر لذواتهم خارج هذه المحاور الإقليمية، بمساراتها الانتحارية، والتي لم تكتف بوضعنا في مواجهة بعضنا داخل القفص الطائفي، والتفرج علينا، بل حولتنا ذئاباً بشرية، تستمع بمشاهدة حز الرؤوس، وهي تهتف لا للطائفية!