ضحايا اللجوء.. تحسبهم يقظى وهم رقود

17 اغسطس 2014

مهاجرون سودانيون غير شرعيين في الصحراء (مايو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

أخفى ذلك الشاب الدارفوري تحسُّسَ وجدٍ عَصَف به، مثل طيور مهاجرةٍ شتى، حينما عبّر فرحاً عن ظفره بفرصة عملٍ متواضعةٍ، مثل مئات اللاجئين السودانيين في ليبيا ما بعد الثورة. عبّر الشاب عن راحته بهذه العبارة: "أخيراً، لا يجب أن أكون قلقاً حول فكرة الاستقرار، الآن أستطيع النوم بأمان في الليل".
ربما كان ذلك الشاب أحد ضحايا وهم الوحدة الأفريقية التي كان ينادي بها العقيد معمر القذافي، في عقده الأخير، باقتراحه إنشاء الولايات المتحدة الأفريقية، ثم نكص عنها في تصريحاته الخاصة بمثل دعوته إلى انفصال جنوب السودان. وعندما كان السودانيون يستحثون الوحدة، ويجاهدون لمحاربة شبح الطائفية والتحيّز القبلي والإثني والديني، قال رئيس ليبيا قولته التي عكست أحد أشكال العنصرية الراسخة في ذهنه: "الجنوبيون شيءٌ آخر، ليسوا من السودانيين، ولا يشبهون أهل النوبة والشرق والشمال، ولا يتحدثون اللغة العربية".
أما العنف الأخير ضد اللاجئين السودانيين والأفارقة، الذي لم يسلم منه مواطنون ليبيون، فلا يخضع لنظرية الفوضى الخلّاقة، والتي تم ابتكارها على ضوء ما نجم عن حالة النزاع والاقتتال، كإحدى مخرجات الثورة التي ما زال يؤمل أن يقطف المجتمع الليبي ثمرتها، وإنّما هي نتيجة مقوماتٍ عمل على تغذيتها القذافي، طوال عهده الذي امتدّ أربعة عقود، ضد الأقليات الليبية الذين نعتهم بأنّهم مجرد مخطط استعماري لتدمير الأمة العربية.
وتزامناً مع انفراط عقد الأمن الليبي، أوان ثورة 17 فبراير، كان اللاجئون السودانيون في ليبيا ضحية تصريحات أطلقتها وزارة الخارجية السودانية، في إطار التشفّي من الحركات الدارفورية المتمرّدة، والتي اتخذت من ليبيا ملجأً لها. كانت تلك التصريحات الرسمية حول مشاركة عناصر من حركات دارفور المسلحة كـ"مرتزقة" في أحداث ليبيا، بمثابة دعوة صريحة لثوار ليبيا الذين يواجهون الموت، بواسطة كتائب القذافي، بألّا يتسامحوا مع أي مجموعةٍ تحوم حولها شكوك الارتزاق.


وليبيا، الآن، دولة تعيش على هاجس الأمن، فالمواطن العادي في حالة خوف مستمر، ويشعر أنّه مستهدف أينما ذهب. هذا الشعور انتقل، بالتالي، إلى كل مَن أتى إلى هذه الدولة التي يعاني مواطنوها، كما الوافدون، محاولات يائسة للشعور بالأمن والسلام.
أبدى ذلك الشاب السوداني استياءَ العاتب على وطنٍ تركه لعناء الرحيل، عندما نطق كلمة "أخيراً"، فقد ظنّ أنّه يختصر زمناً أرهقته فيه مشقّة التنقيب من دون طائل عن ساعة وحيدة للهناء بنعمة النوم، غير أنّه، إلى الآن، لا يمكن التكهّن من دون علمٍ بتوسّع مدى صيْده إلى آفاق جديدة، تعبيراً عن تماهيه بحصوله على هوية رسم كل حلمه فيها، وتفانيه في الدفاع عن سِنة من النوم مزّقتها سنون النزاع في دارفور، وشتات الهجرة المضنية، والتسكع في حواري تشاد وشوارعها، ثم أخيراً إلى ربوع ليبيا.
وظَفَرُ ضحايا النزاع بهنيهة نوم هو هروب من طوفان التفكير الهائج الذي يجتاحهم، وهم يستنفرون الحواس والمدارك، لجوءاً إلى قمةٍ بعيدةٍ تُشعرهم بالأمن السكينة والاطمئنان. ويكون ذلك، كما تعتبر الفلسفة الهندية القديمة، النوم تعبيراً عن حالة سلامٍ كامل مع النفس والعالم، أو محاولةً لا شعوريةً يروّض بها ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة خوفهم من المجهول.
ذهب ذلك الشاب إلى قول شيء أكبر من النوم بشكله المعروف، وكما كتب عنه ألكسندر بوريلي بأنّه يعين الكائن الحي على تجنب الأخطار غير الحيّة في البيئة، مثل أخطار البرد والظلمة، والأخطار الحية، مثل الحيوانات المفترسة.
ما ظهر في عالم يقظة ذلك الشاب السوداني كان تجلّياً لحالات تشرد وعذاب، احتل روحه فيها جفاف غير مبشّر بيقين، فقد خرج من فخ الموت، ليدخل مصيدة أخرى للعنف في ليبيا. وما تجربة النوم الآمن التي حلم بها، ويمر بها الناس كل يوم، إلّا كمحاولة لتنسّم أمل الخلود ممّا لم يكن ليتفق مع حياته السابقة. وقد كان يظن أن تمنيه ذاك لم يكن ليتأتى لو لم يعبر إلى ليبيا. فقد ظنّ أنّه بعد سنوات السهاد والأرق التي مرّ بها، سيأخذ جسده حاجته الكاملة من الراحة، وما درى ما تخبئه له الأقدار من صراع آخر لن يحرمه نعمة النوم بأمان وحدها، ولكن ربما يسلبه حياته كلها.
هذه المناجاة للشاب السوداني، الفار من جحيم إلى آخر، هي تجربة يمرّ بها غيره من ضحايا النزاعات في ربوع الوطن العربي، وهي وليدة تجربةٍ مؤلمةٍ يعيشها ضحايا النزوح واللجوء، بكل ما فيها من معاناة. وقد تكون تمثّلت لديه في زمن البؤس والشقاء في بلده، أو طريق هجرته، بظهور الألم بكل عناصره في ثنايا كلماته الباكية وعودة صورها المترعة بالأسى. لم يكن يهمّ هذا المشهد إن كان ما يقضيه في نومه، سواء كان يوماً أم مئة عام. أمّا الآن، فلا همّ لديه، لأن لا شيء يزعجه كصوت دباباتٍ تسدّ طريق الحرية، ولا استبداد يطغى، ولن يوقظه صوت فيروز من وراء الجدار بأن "صحّ النوم".


 

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.