ضائعون وسُجناء في مدنِ الخَيال

04 نوفمبر 2014
+ الخط -
رأى أبو جعفر المنصور منامًا يحيطُ به سورٌ دائري في مدينةٍ خياليةٍ، فدعا المنجّمين إليه أوّلًا، قبل أن يبدأ المهندسون بتشييدِ بغداد "مدينة السلام"، دائرةً بأبواب أربعة فتَحتها العصورُ على الخصبِ والمصائبِ، وأحصى ياقوتُ الحموي مكتباتِها وبساتينها المُحترقة. كانتْ بغداد سرّةَ الأرض، وقصرُ الخليفة قلبُ هذه السرّة.

كانتْ فكرة تلك الدائرة العملاقة مجازفةً هندسيةً نبعتْ من الخوف، الخوف من الأعداء والأشقاء والجيران. الخوفُ وشهوةُ المجدِ والهوسُ بالخلود دفعتْ إلى قيام سورِ الصين أيضًا. الإمبراطور شي هوانغ تي أحرقَ كلَّ الكتبِ التي قرأ بضعةً منها في شبابِه ليتعلّم إجلالَ الماضي.

فالكتب تصونُ الماضي والعمارةُ ترنو إلى المستقبل. أراد أن يبدأ بِه التاريخ، ليكون الأوّل في كلّ مضمار. أراد أن يسمّي كلّ شيء من جديد، ومنعَ كلمة "موت" من التداول. 

كان السورُ تضخيمًا هائلًا لسياجِ منزلٍ أو قصر، صدَّ المغول، فاتجهوا غرباً نحو ما يسمى "الشرق" ببغدادِه وشامِه. كلّ سياجٍ يرفعُ حدودًا ويحرس أمانًا قد يُزعزع لأتفهِ الأسبابِ والظنون. لكنّ الأسوارَ والجدران لا تحظى بالنصيبِ نفسِه من الشهرة.

ليستْ جميعها كالسورِ العظيمِ مرئيةً من على سطْح القمر. جدارُ برلين أشهر وأهمّ وأرقى من الجدار الذي تُعليه إسرائيل في فلسطين، ولا أحد تقريبًا يأتي على ذكرِ الجدار الذي يعلو بين بلغاريا وتركيا أمامَ الهاربين في هذه الأرض.

ربّما هناك بيوت يمكنُ أو يسهلُ حملُها في المنافي كالدينِ واللغةِ والنقودِ والشهرة، فيسكنُها بعضُ أصحابها القلائل بعدَ أن تلاشت بيوتهم فأدخلَها الحنينُ إلى الصورِ والأغنيات والقصائد؛ لكنّهم مشردون في الواقع ولن ينتهي عثورهم الشاق البطيء على بيتٍ جديدٍ في مكان آخر. ستصادفهم مدن أخرى في قاراتِ العالم غير مدنهم التي تهدّمت.

في كلّ مدينة كبرى، حيث يبحث الغرباء عن مدنِهم المفتقدة، ثمّة بابل وإيثاكا. المدنُ الحالية توحِّدُها، في أوروبا على الأقلّ، فخامةُ المتاجرِ العالمية، وتعلو في أرجائها حواجزُ غير مرئيةٍ يبنيها البشرُ بحرصٍ وحذر.

ازداد الهاربون إلى شمالِ الأرض، قد تُذكّرهم أقواس النصر بهزائمهِم الشخصية، بالضحايا لا بالأبطال؛ سيتذكّر بعضهم يدي صدّام حسين الباطشتين، مُضخمتين في نصبِ "قوس النصر" الذي لم تقصفه "طائرات الحرية" الأميركية. وسْط تلك اليدين العملاقتين، كانت تكوَّم خوذُ الجنود الإيرانيين القتلى، مثلما تكوّمتْ على ضِفاف دجلة أحذيةُ ألف غريق قضوا في كارثةِ جسرِ الأئمة. 

الوقتُ ينقضي، الكتبُ تأسره. يكتبُ ربيع جابر عن مدينةٍ خياليةٍ تحت بيروت التي لا تزال تُغطي بعض مبانيها إعلانات ضخمة، حاجبةً آثار الحربِ الأهلية. كلّ كتابٍ يُخفي كتبًا أخرى، وكلّ مدينة تواري مدنًا أخرى.

أيُّ درب يُسلك يعني فقدان دروب أخرى لا يبقى للحالِم إلا أن يتخيّلها، فالمُخيلة تُمتّع وتُعزّي أيضًا. ثمّة احتمال أن تنعطفَ إلى مدينةٍ أخرى، وأنتَ لا تزالُ داخلَ المدينة نفسها، مثلما تخيّل الروائي السوري خليل الرز في رواياته، حيث قد تُفضي شوارع الرَقّة إلى شوارع في حلب.
 
هذه مدنٌ تراها العَين. لكن ماكوندو ماركيز، ويوكناباتاوفا فوكنر موجودتان أيضًا، بقوّة الخيال وقوّة الكلمات، لا يمكن تدميرهما بالصواريخ والبراميل. الخرابُ تجربةٌ شخصية، هذا إذا نجا الشهودُ واستطاعوا أن يصفوا ويتذكّروا.

كثرٌ هم أبناء الخراب وآباؤه. لا نعرفُ أصحابَ الحجارة المنهارة التي كانت بيوتًا، ولكن ما تأخذُه الحرب لا تردّه الطبيعة. سحابةُ الدخان نفسها غطّت هيروشيما ودرسدن وكوسوفو وحمص. الأطلالُ هي الأطلال. بقايا ما لا يتبقّى في قبضةِ تاريخٍ لا يعرف الرحمة.

تخيّل المعماري الأميركي فرانك لويد رايت، بناءَ غرفةٍ بلا باب. كانَ المخطّط معقدًا قبل الوصول إلى هذا الفخ-اللعبة. في الفترة نفسها، كان رجلٌ نسي الجميع اسمه يبني منزلًا طينيًا في حوضِ الفرات. نسي البنّاء الساهِم المستعجِل أن يفتحَ بابًا في الجدار. وجد نفسه فجأةً داخل سجن، ولكي يخرج كانَ عليه هدمَ ما بنته يداه.

العمارةُ الطينية لا تصمد طويلًا أمام الزمن والطبيعة. فنّ فقيرٌ لا يشمخُ ولا يتباهى بعظمةٍ لا تُضاهى، ويعنيه الظلّ أكثر من الشمس. دمّر زلزالٌ قلاعَ الطين في بلدة بم الإيرانية، شاحنةً مفخخةً أبادتْ قريةً يزيديةً بأكملها في جبلِ سنجار، وقبَرَ الانفجارُ ناسَها الفقراء تحت تراب سقوفهم؛ تبدّدت البيوتُ كالسحاب، وانضافتْ قريةٌ أخرى إلى القرى المنسية.


المساهمون