صورة مفصّلة عن بن بركة

02 نوفمبر 2015

لم يكن المهدي هاربا من العدالة ولم يشتغل سرا(1يناير/1959/Getty)

+ الخط -
الشهيد الحي، هكذا يلقّب في الأدبيات السياسية المغربية، فقاتله لم يُعرف وإن كانت ملامحه هنا وهناك، وقبره مجهول، وإن طافت صوره على هذا الأديم أو ذاك. شهيد يحيا في الزمان وفي المكان وتتعاظم رمزيته مثل أي بطل أسطوري، والحقيقة أن المهدي بن بركة صنع أسطورته في الحياة قبل أن يخفيه موت غادر وجبان، هناك، عندما اختطف من أمام مقهى ليب الباريسي ليجابه اختفاءً قسريا امتد لخمسين سنة وما يزال.
لم تقدم التحريات القضائية شيئا إلى الحقيقة، ولا مطالبات عائلته ورفاقه في درب النضال، ولم تستطع المذكرات التي كتبها مخبرون سابقون في أجهزة الأمن المغربية والفرنسية إماطة اللثام عن الحقيقة، ولا حتى الأعمال الأدبية والسينمائية التي تناولت حياته وموته المخيف والغامض.
يورد المخبر المغربي أحمد البخاري، العميل السابق في "الكاب 1"، وهو مكتب استخبارات مغربي سري كان يشتغل في أواخر الخمسينيات والستينيات ومقره الرباط والذي كان يعمل تحت إشراف الجنرال الدموي محمد أوفقير قبل أن يجري حلّه، أن المهدي بن بركة استقدم من باريس إلى مقر الكاب 1، وأنه أثناء التحقيق معه، أفلتت من الضابط الذي يستنطقه ضربة طائشة أودت بحياته، ولم تنفع المحاولات الكبيرة التي بذلت من أجل إسعافه وإنقاذ حياته، فما كان من المسؤولين عن مكتب الاستخبارات من خيار إلا التفكير في الطريق الأنجع للتخلّص من جثة الشهيد، وكان أن استقرت الفكرة على تذويبه في حوض من الأسيد، وهكذا كان، حتى تحلّل ولم يبق منه شيء.
يا له من موت فاجع ومهول ونهاية في قمة المأساوية، تلك التي يصورها عميل الاستخبارات السابق للزعيم المغربي، الذي كان أمل المغاربة وشعوب العالم الثالث في التحرر والديمقراطية. ولا ندري لحد الساعة مقدار الحقيقة في هذه الشهادة، والتي تقدم رواية مختلفة عن رواية العائلة، التي تعتقد أن الراحل اختطف من فرنسا بتعاون استخباري مغربي فرنسي إسرائيلي، وأنه استجلب للمغرب حيث قتل ودفن في منطقة قريبة من السفارة الأميركية، حاليا، في الرباط.
ولكن ما هو مؤكد أن أطرافاً كثيرة ساهمت في تنفيذ الجريمة النكراء، وأنه لو كان مقتله جرى بشكل عرضي أو نتيجة خطأ في أساليب الاستنطاق، فإن مجرد حادث الاختطاف يعتبر جريمة مدانة في حد ذاتها.
فالمهدي لم يكن شخصا هاربا من العدالة ولم يكن يشتغل في السرية، بل كانت مواقفه وتحركاته على المكشوف. لقد أورد الأخضر الإبراهيمي، السياسي المخضرم والقيادي في جبهة التحرير الجزائرية، في شهادته عن الراحل في الذكرى الخمسين لاختفائه، أن المهدي كان شديد الحذر في الأشهر القليلة التي سبقت اختطافه، وكان يستشعر بحسه السياسي الخطر الذي باتت حياته عرضة له. لقد كانت مواقفه الأممية تتحوّل إلى عمل حقيقي يزعزع، وكانت النجاحات التي حققها على الأرض، ومنها تصليب الموقف الفلسطيني بدفع عدد من الدول إلى سحب اعترافها بالكيان الإسرائيلي، عاملا للتأليب عليه.
وليس هذا وحده ما جعل حياته عرضة للتهديد، بل أيضا عمله ضد الإمبريالية العالمية وخوفه من يد غدر فرنسية تبيعه بأبخس الأثمان لهذا الطرف أو ذاك.
ورد في شهادة عبدالرحمن اليوسفي، رئيس الوزراء المغربي الأسبق ومهندس الانتقال الديمقراطي مع الملك الراحل الحسن الثاني، ورفيقه في الكفاح، أن الملك الراحل طلب من المهدي الرجوع إلى المغرب، لكنه أبطأ في ذلك، إذ كانت له مواعيد دولية هامة ضمن منظمة دول عدم الانحياز والقارات الثلاث.
وفي الرسالة التي بعثها الملك محمد السادس إلى خمسينية اختفاء المهدي بنبركة، وهي مبادرة غير مسبوقة وشديدة الدلالة، أورد الملك أن المهدي كان صديق العائلة الملكية، وأن حقيقة موت المهدي لا بد أن تظهر، علما بأن الحقيقة التاريخية معقدة، وألمح إلى أن موت المهدي لطالما استُغل لأغراض سياسية مبيّتة، علما أن الرجل كان قائدا وطنيا مخلصا للمغرب وللملكية.
لم يكن بن بركة خارج دوائر الحكم، لقد كان بالفعل أستاذ الحسن الثاني في مادة الرياضيات وصديقه وندّه، فيكفي أن نتأمل الصور التي تجمعه بالملك الراحل كي نعرف مقدار تلك العلاقة، التي بلا حدود.
دلالات
6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..