صورة الفنان في قدسه

15 مارس 2014
ستيف سابيلا
+ الخط -
على طَبقات الدهان المُترهلة والساقطة، أراد ستيف سابيلا (1975)، أن يسترجع الذاكرة، ذاكرة حيطان القدس القديمة الشاهدة على نَفي المدينة وسرقة تاريخها، ليقول: إنَّ محاولات الاحتلال لتهويد فلسطين وقتل تعدديتها الدينية، وروايتها التي نجحت في استعمار عقول ومخيلة كثيرين في العالم، ما هي إلّا رواية هشة كطبقات الدهان المترهلة.


يُعتبر معرضه "شظايا" الذي افتتح مؤخراً في غاليري "برلوني" بلندن، ويستمر حتى العاشر من مايو/ أيَار القادم، امتداداً لمشروع "القدس في المنفى" (2006)، الذي يفترض أن إبعاد المكان عن إنسانه من سلطة احتلال، هو نفي للمكانِ نفسه.

خلال تصوير الشريط التوثيقي لـ"القدس في المنفى"، يقف سابيلا على باب أحد البيوت المحتلة في القدس الغربية مُتمنياً دخوله ليصور ما آلت إليه الحياة في هذا البيت. ولا يكتفي بتصوير جماله الخارجي خلال ساعات الفجر، بل يكتشف بالصدفة بعدها، أن البيت يعود للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي بات اليوم "السفارة الصهيونية المسيحية". وأية صدفة ستسرق النوم منه، هو المُقيم منذ سبع سنوات بين برلين ولندن.

في عام 2009، عاد الفنان المنفيّ الى زيارة عائلته في المدينة المنفيّة، وقد حالفه الحظ بـ"استئجار" بيت عربي محتل من "عائلة اسرائيلية"، لـ38 يوماً في قرية عين كارم، غرب القدس، والمحتلة عام 1948. وهو شيء لا يتمكن منه الفلسطينيون عادة.


يقول سابيلا في أحد حواراته الصحافية: "شعرت أني حققت انتصاراً باسترجاع ملكية البيت ولو لفترة محدودة، إلّا أن ذلك لم يكن هيناً علي؛ منذ اللحظة الأولى لدخولي العتبة شاهدت الزخرفات العربية على البلاط، شعرت بأنّي أدوس على أرضية مُهشمة، كنت جالساً في البيت قلقاً، أشعر أني في بيتي وفي الوقت نفسه لست في بيتي".

حاول سابيلا أن يعرف قصة البيت المُحتل؛ من سكنه؟ من أسسه؟ من بناه؟ سأل "الجار" الذي "يملكه" من دون جدوى، ليجد نفسه محققاً بصرياً يصوِّر كُل صغيرة وكبيرة في البيت علَّه يعثر على علامات تدل على تاريخ هذه الدار؛ ملاعق الفَضَّة، الخزائن الخشبية الضخمة، الجوارير، البلاط..."الأثاث في البيت قد يفوق عمره الـ 60 عاماً"، يقول سابيلا، ويضيف: "الجميع يعلم أن أهالي بلدة عين كارم هجروها وهُجِّروا منها بعد مذبحة دير ياسين القرية المجاورة لها على أمل العودة خلال أيام".  

ظلَّ شبح هذا البيت يلاحق الفنان، وهو يبحث عن كيفية عرض الموضوع السياسي والتاريخ الحالي للبيت الفلسطيني المُحتَل. كان من الضروري أن يعود لما يشكل شيئاً أصلياً له كإنسان: مكان ولادته في القُدس القديمة. فانتشَل قِطَع الطلاء الهشة عن أول حائط لمحه في مهده ليطبع عليه الصور التي التقطها أثناء إقامته في البيت المُحتَل لـ 38 يوماً.


قبل شهرين رافقناه في البلدة القديمة، وهو يُفتِّش عن قطع أخرى ليستكمل مشروعه مُتحسراً على تلك، التي لم تصمد خلال تجاربه في العامين الماضيين.

لقاء سابيلا في المكان الذي لطالما اعتبره عاصمة لمخيلته، فرصة ثمينة. كنّا نتفاجأ بتفاصيل صغيرة في كل زاوية، وهو يستحضر ذكرياته وعلاقته بالمكان. الأساليب التي اتبعها في فهم هذه العلاقة والتحرر منها كانت تهُزّنا كالنتائج التي تحملها له "الغرفة المُظلمة"، قصص الاغتراب التي يعيشها الإنسان الفلسطيني في القدس وأثرها على الفنان. 

في "درب الآلام"، ضربه جنود الاحتلال وهو في الطريق إلى المدرسة. وفي عيد الفصح منع من الوصول إلى كنيسة القيامة، كما منع من دخول المسجد الأقصى بعد أن أمضى جزءاً من طفولته في ساحاته. يتحدث عن التشوه المعماري الذي أصاب المدينة وحرمانه من الإطلالة على قبة الصخرة من نافذة غرفته.

"لا يمكن القضاء على التعددية التاريخية لفلسطين. انظر إلى القدس، إنها "كولاج" من كل شيء"، يقول وهو يزفر بتعب بعد أيام من العمل الشاق ومراقبة آثار الاحتلال المستجدة على المكان.

المنافسة على المقابر المحيطة بالمدينة والتي حوَّلتها إلى مدينة أموات، إضافة إلى كثير من التناقضات التي تجعل من الحياة في القدس منفى لأهلها، هي ما يُصِّر سابيلا، على تذويبه في أعماله ليتخلص منه ومن "الأسر" الذي وقعت فيه مخيلته لسنوات وليُنهي الاحتلال على طريقته.

ولعلَّ ما قاله الفنان عند إقلاع الطائرة به من مطار "اللد" (يسمّيه الاحتلال "مطار تل أبيب") يلخص مسيرته التحرريّة كفنان ومواطن منفي: "هذه المرّة تمكنت من تفتيت حدودي الشخصيّة مع القدس. أنا حُرّ".



المساهمون