صورة الأقصى.. بين الزّمان والمكان
تكاد ما كانت تسمى المساعي الإسرائيلية الجادة إلى فرض أمر واقع في القدس المحتلة، منذ عام 1967، يتحوّل إلى شبه مفروغ منه، في ظل استغلال الاحتلال الإسرائيلي الأزمات الدّاخلية والاضطرابات المحيطة بدول الجوار العربي لفلسطين، نتيجة اندلاع ثورات "الربيع العربي" التي اعقبتها انقلابات عسكرية وحروب طاحنة، أودت بحياة عشرات الآلاف، وأسهمت في تنحية الدّول العربية إلى هامش الدور الإقليمي، المناط بها، بشكل شبه نهائي، على الرغم من ضعف موقفها تجاه المدينة، والمسجد الأقصى، سابقًا.
ويدرك المطّلع المتابع عن قرب لقضيّة القدس والأقصى، حجم استغلال الاحتلال الأزمات العربية، لتنفيذ ما خُطط له في المسجد الأقصى، من استئناف السيطرة على مرافق المدينة، بما يشمل حتى ساحات الحرم الذي يحظى ببعد مقّدس إسلامياً، فهو القبلة الأولى وثاني المسجدين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام.
في الفترة الأخيرة، ومع تزايد حدّة اعتداءات الاحتلال على المسجد الأقصى، طفت على السّطح مصطلحات قديمة – جديدة، حاولت القيادات الفلسطينية الناشطة في الميدان الرّقي بها في سلّم أولويات وسائل الإعلام العربية، لتسليط الضوء على ما بات يُعرف بمحاولات التقسيم" الزماني والمكاني" للمسجد الأقصى بين المسلمين واليهود.
إنّ الاعتداء على المسجد الأقصى، من الجماعات اليهودية المختلفة، والتي سعت، جاهدةً، إلى استصدار فتاوى دينية، مغلفة بقرار سياسي، تسمح بالصلاة فيه، والإعداد لهدمه، وإقامة الهيكل المزعوم، مرّ، أخيراً، بمرحلة تطوّر تبدو واضحةً لا لبس فيها، باستباق الاقتحامات بحشد وتحريض تقوده وسائل الإعلام العبرية بشكل منظّم، وعناوين ومضامين تكاد تكون متشابهة في الكلمات والمصطلحات والتوقيت، ما يفيد بأن الجهة المورّدة للمعلومات واحدة، إضافة إلى حدّة التصريحات الرسمية الإسرائيلية المطالبة بتقسيم الأقصى زمانياً بفرض ساعات محددة لصلاة اليهود، وأخرى لصلاة المسلمين، أو مكانياً، من خلال اقتطاع قبّة الصخرة وإقامة مكانٍ، يؤدي فيه اليهود طقوسهم مطرحها.
يعطي تصريح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، يتسحاق أهرونوفتيش، الأسبوع الفائت، عن إغلاق الأقصى في وجه المصلين المسلمين، في حال إصرارهم على إغلاقه في وجه اليهود، بُعدًا آخر للمسألة، إذ أنّ الإغلاق يعالج بالإغلاق، ما يدحض فكرة قدسية المسجد لليهود، ويبرز البعد السياسي الاحتلالي الإسرائيلي للمدينة المقدسة، المُغلّف بالدين.
بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية، في الأشهر الماضية، بتكثيف تضليلها، وأخذ مكانها في التحريض على المصلين والمرابطين في الأقصى، والمطالبة بمنع مظاهر رباط المصلين في المسجد للحؤول دون أن تقتحمه الجماعات اليهودية، وتسليط الأضواء على إصابة رجال الشرطة بالحجارة في محاولات إخلاء المسجد، والدعوة إلى الحشد المقابل من اليهود، لفرض الأمر الواقع على المدينة المعتقلة.
ولعل الأخطر في سياسة الاحتلال المعتمدة في السنوات الأخيرة في البلدة القديمة، هي المحاولات الدؤوبة لإيجاد صورة نمطية سلبية عن المسجد والمدينة في أذهان الجيل الفلسطيني الشاب، لإبعاده عن المنطقة جغرافياً، وقطع تواصله مع الأقصى عاطفياً وذهنياً. فقد سعت السلطات الإسرائيلية، ومنذ احتلالها بيت المقدس سنة 1967، إلى استهداف الشباب المقدسي بشكل خاص، لهدم الإنسان المحيط بالأقصى، بالإسهام في انتشار المخدرات، والعنف، وأصناف أخرى من المظاهر المرفوضة اجتماعياً، والتي بواسطتها اخترقت شرائح من المجتمع المقدسي المحافظ عموماً، ابتغاء إبعاد زوّار المدينة العتيقة عنها، وزرع كل ما يستدعي النّفور.
وشهدت المرحلة حالةً من التطور الدراماتيكي الذي ينم عن عقلية مؤامراتية إسرائيلية، تسعى إلى استجماع بقايا الصورة النمطية المراد زرعها للاستفراد بسكان القدس، حيث بدأت بتشديد القيود على الأقصى، وقطعت الطريق على أهالي قطاع غزّة والضفة الغربية جغرافياً، ومنعهم من دخول المدينة التي ينادي الفلسطينيون بأن تصبح عاصمة لهم، في محاولة لقطع الترابط الذهني والنفسي والعبث بالعقلية الفلسطينية، وحرف مسارها عن التفكير بالقدس والأقصى، والتضامن مع من يعيش في تخومه، إلى الانشغال باعتداءات الاحتلال وحروبه ومستوطنيه، وما ينفذه من اعتقالات وسياسات، تكاد لا تبرح أحداً.
لم تقف المؤامرة الإسرائيلية على صورة القدس والأقصى والعقلية الفلسطينية عند حد بعينه، بل مضت سلطات الاحتلال قدماً، قاصدة من تبقى على تواصل مع الأقصى من الشعب الفلسطيني، وهم سكان أراضي الـ1948، ففرضت قيودًا مشددة على دخولهم إليه، وحددت أعمار المصلين، بحيث لم تعد صلاة الشاب الفلسطيني في الأقصى أمراً اعتيادياً، وصار منع الشباب جزءاً من صورة الأقصى في ذهن الجيل الفلسطيني الشاب الذي صار يجد صعوبة في السفر إلى القدس، والوصول إليها، وهو مدرك أنه لن ينال الصلاة في مسجدها المقدّس، وكثّفت من حدّة هجماتها على من يحاول الرباط خارج أبوابه، حتى يكون العنف المرتبط بزيارته جزءاً من مركبات تلك الصورة.
ولعل المنحنى الأبرز في المؤامرة على صورة المسجد، بعد تذويت استهداف الجيل الشاب، هو استهداف المرأة الفلسطينية نفسها، والتي أصبحت تُمنع دون الرجال من الدخول للصلاة في المسجد، منعاً باتاً، في أحيان كثيرة، دون تحديد الأعمار، وباتت تواجَهُ بالعنف الشديد والاعتداء بالضرب ونزع الحجاب عن رأسها بشكل فظ ومُستفز، يستهدف عمق الإنسان الفلسطيني، وقمع صورة القدس في قلوب الأمهات، والنأي بهن جانباً عن المناطق "التي يراد لها أن تكون مشتعلة"، خوفاً من الدور الذي لعبته المرأة الفلسطينية، وما تزال، في القضية عامّة، وقضية القدس والأقصى خصوصاً، وتربية الأجيال على التعلق بالوطن، وإرضاع الأطفال حبّ المسجد المُحتل، وإيجاد علاقة الترابط الحميمة معه.
ولعبت السياسة الإسرائيلية على حبل التكرار، وإعادة تمثيل المشهد على الدوام، فالأقصى يقتحم أسبوعياً، وبشكل منتظم من الجماعات اليهودية، بحيث أصبحت أخبار الاقتحام مجرد أخبار عابرة في عناوين وسائل الإعلام، وما عادت تستفز الشعب، ولا تشعل انتفاضةً، كما سبق وأشعلتها عام 2000، ثمّ عمدت إلى القيادات الفلسطينية، ذات الأهمية الدينية والسياسية، فأبعدتها عن القدس وحاكمتها على رأيها ولاحقتها سياسياً، وعلى رأسها الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني الملقب بشيخ الأقصى، بينما أغلقت مؤسسات داعمة لصمود أهالي القدس والرباط في الأقصى، مثل مؤسسة "عمارة الأقصى" بأمر عسكري، حال دون أدائها واجبها الذي كانت، من خلاله، تعزز الوجود في ساحات المسجد والتواصل معه.
ويبدو من ظاهر الأمر أنّ الصورة النمطية الإسرائيلية، آتت أكلها، أحياناً، وأُجهضت، في أغلب الأحيان، نتيجة فضح المؤامرة وكشف حجمها، ومواجهة مخططات تحريف الذاكرة وتشويهها، بصمود أهالي القدس أمام محاولة النيّل منهم، وتفكيك ترابطهم، وحملات فلسطينية للتعريف بالمسجد، وأهميّته والعلاقة فيه، وسعي المرابطون إلى الدّفاع عنه، والوقوف في وجه مقتحميه ببسالةٍ، وجدت لها مكاناً في قلوب الشبان، فاستطاعت تحويل مسار المؤامرة الإسرائيلية إلى صورة بطولةٍ، يخلقها الشباب الفلسطيني المقدسي، مدعوماً، بجهود شابة من فلسطينيي 48، ما أسهم، إلى حد بعيد، في إثارة قضية القدس والأقصى إعلامياً، وربطها بمشاهد عزّة وكرامة وصمود استفزت عموم الشعب، وكثّفت، بشكل عكسي، أعداد المرابطين هناك من الشبان، وحتى النّساء اللواتي لم تَحُلْ صورة العنف المرتبطة بالمسجد دون رباطهن مؤازرة للرجال، ووقوفهن، كالأوتاد، في وجه الجماعات اليهودية التي توفر لها الحماية الأمنية والعسكرية عند كل اقتحام.
توفّر السلطات الإسرائيلية الدعم المادي واللوجستي اللازم للجماعات اليهودية لاقتحام المسجد الأقصى، خدمة لأجندتها الهادفة إلى إيجاد أمر واقع في المدينة والمنطقة، كما سُرّب من اجتماع لجماعات يهودية، قال فيه رجل الدين، ياعكوف ميدان، إنه: "مُتابَعٌ من جهاز الأمن العام –الشاباك- وعلى أعلى المستويات، ومطالب بتكثيف الاقتحامات للأقصى لتعزيز السيطرة عليه"، فيما كشف رجل دين آخر عن مساع إسرائيلية جادة إلى اقتطاع قبّة الصخرة، وإقامة الهيكل اليهودي المزعوم مكانها، موضحاً أن الهدف من الاقتحامات المستمرة هو تعزيز الوجود هناك، وذلك يتم بحشد المخابرات الإسرائيلية، التي وإن لم تجد من يؤدي الدور، يذهب قادتها إلى تجنيد أصدقائهم وأقربائهم وأبنائهم، فيما تغط الدول العربية والإسلامية وأجهزة مخابراتها في نوم عميق، بعيدًا عن محيط القدس، تؤثر الغياب في ظلمة الانقسامات الداخلية والتحالفات، على مجرّد الاستنكار.