01 أكتوبر 2016
صنعاء... عاصمة أم ثقب أسود؟
يُحكى عن صنعاء أنها المدينة التي "لا تفكّر فيها بتغيير لهجتك أو هويتك. فأنت يمني فقط. ولا أحد يسألك من أين أنت"، إلا أن جدلاً كبيراً يدور حول هذا الأمر، يوحي أن العبارة ليست صحيحة، فوجود من يشير إلى تعرّضه للإيذاء بسبب لهجته أو انتمائه يجعل هذه العبارة مجرد رأي. وفي المقابل؛ من ينفيها لا يجعل نقيضها هو المطلق، فالمجتمع اليمني بسيط، كمجتمع زراعي تلقائي، لا يعيش على التمييز العميق أو يتعاطى من خلاله.
تحوَّلت صنعاء من حيِّ أثري صغير، كشأن المدن القديمة؛ إلى مدينة تتوسع باستمرار، وتحتكر نسبة عالية من الحياة السياسية والاقتصادية والخدماتية على حساب المدن والمناطق اليمنية التي عانت التهميش والحرمان، وانتقال نخبة متعلميها ومثقفيها إلى صنعاء، حيث فرص العمل والحصول على مختلف الخدمات أفضل وأوفر، بل تضطر الطبقات الدنيا لتحمل أعباء الانتقال إليها، من أجل حصول أبنائها، خصوصاً الإناث، على تعليم أفضل.
تتركَّز الطبقات الاجتماعية الحاكمة في صنعاء، فهي مركز نفوذها، وجميعها تملك مصالح ضخمة هناك، فالأنشطة الاقتصادية والإدارية غير ممكنة بدون التعامل مع صنعاء مركزاً. وعلى الرغم من أن أكبر المجموعات والبيوت والقطاعات الاقتصادية اليمنية نشأت وتنتمي إلى محافظات بعيدة عن العاصمة، لأسباب جغرافية أو ديمغرافية؛ إلا أنها جميعاً تضطر لمركزة أنشطتها في صنعاء، والخضوع لابتزاز (وإجراءات) الطبقة الحاكمة فيها، وهي الطبقة التي شكّلت النظام السياسي الذي أدار البلد إقطاعية خاصة برموزه الذين ينتمي أغلبهم إلى المناطق المحيطة بصنعاء، والتي تعرف بـ"الجغرافيا الزيدية"، ويَستخدم أبناؤها كأتباع عصبويين له، يُزَيِّف وعيهم باصطناع خصومةٍ وهميةٍ بينهم وبين بقية اليمنيين خارج تلك الجغرافيا، بمبرّرات مناطقية وجهوية وطائفية، ويحوّلهم من ضحايا له إلى مدافعين عنه.
لا يظهر التمييز المناطقي في اليمن بمظاهر معتادة ومألوفة، في ممارساتٍ يومية وتصرفاتٍ يُمكن ملامستها في الحياة العامة، كان هذا يحدث سابقاً، فتمركز السلطة والثروة والخدمات في صنعاء حوَّلها إلى مدينةٍ يمنيةٍ حقيقيةٍ، يتعايش فيها اليمنيون جميعاً، لكن طبيعة النظام العصبوي رفضت هذا التعايش، حين واجهته الثورة الشعبية في 2011، فتوجَّه إلى نسفه، بالتحريض ضد جماهير الثورة التي ينتمي غالبية جماهيرها إلى خارج المرتفعات الشمالية التي تُعرف بـ"الجغرافيا الزيدية". وتولى رئيس النظام نفسه، علي عبد الله صالح هذا التحريض. حذّر قبائل جغرافيته من أن سقوط نظامه سيعني خروج السلطة، بكل امتيازاتها، من هذه المنطقة، وكانت هذه أولى مظاهر الثورة المضادة. كانت محافظة تعز وسط البلاد هي الأكثر صخباً وتضحيةً في هذه الثورة، وكان تحريض النظام مركّزاً نحوها.
تحالف نظام صالح مع جماعة الحوثي التي خاض ضدها ست حروب، حين كان رئيساً للبلاد. تحالف خصما الأمس، لتمثيل القوى التي تضرّرت من الثورة الشعبية، والتي تنتمي إلى الجغرافيا نفسها، وفي حربهما الجديدة المشتركة استهدفا كل القوى التي ساندت الثورة الشعبية داخل جغرافيتهما، حتى تمكّنا من الانقلاب على السلطة التوافقية والإجماع الوطني في سبتمبر/ أيلول 2014. وحينها كانت كامل "الجغرافيا الزيدية" تحت سيطرتهما، فبدآ التوسع خارج هذه الجغرافيا، لتأديب معاقل الثورة، وجرى حشد المقاتلين من هذه الجغرافيا إلى جانب وحدات الجيش الذي تنتمي غالبيته وقادته إلى هذه الجغرافيا.
أتقن نظام صالح تعزيز الاستعلاء المناطقي والطائفي والجهوي، لتحويل أبناء "الجغرافيا الزيدية" إلى وقود لمعاركه. كان لهذا الاستعلاء أسبابه التاريخية، فهذه الجغرافيا تتوزع على هضبةٍ عريضةٍ مرتفعة على ما حولها، وهذا يجعلها عصيةً على الغزو، ويمنحها نقطة تفوق عسكرية على بقية المناطق، وإن كان التاريخ يذكر أنها انهزمت في حروبٍ كثيرةٍ أمام قواتٍ من مناطق منخفضة، ومن ذلك الحملة العسكرية التي قادها القائد العسكري للدولة الطاهرية وسط اليمن، عامر عبد الوهاب، في العام 1516، كما أنها تعرّضت لغزو من الدولة السعودية الثانية في العام 1881، وتذكر الروايات التاريخية أن الغزاة غادروا صنعاء بالغنائم والسبايا.
يُعرف تاريخ هذه المرتفعات بندرة الموارد والتوسع الدائم للحصول على موارد غيرها من المناطق، لكن الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي (859 ـــ 911م) وصل إليها من الحجاز، حاملاً المذهب الزيدي بمبدأ حصر الإمامة في نسل الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب؛ ليبدأ فصلٌ جديدٌ وطويلٌ من حروب هذه المرتفعات تحت مظلة طائفية هذه المرة، بدأ الهادي نشر مذهبه بالقوة والبطش، لتحويل أبناء قبائل المرتفعات إلى أتباع ومقاتلين لصالحه.
يشير الباحث أحمد عيد في كتابه "خارطة التوراة في جزيرة العرب" إلى أن المرتفعات الشمالية كانت قبائل زراعية بلا دولةٍ تخوض حروباً ضد المناطق السهلية والساحلية التي عرفت الاستقرار السياسي، نتيجة ارتباطها بالتجارة وطرق القوافل، ونوعاً ما البحر، لكن الإمام الهادي وتابعيه تعاطوا مع خصومهم كـ"كفار تأويل"، وأصدر الإمام المتوكل إسماعيل (1633- 1681م) فتواه "إرشاد السامع إلى جواز أخذ أموال الشوافع"، والشوافع هم أتباع المذهب الشافعي الذي ينتشر في كل مناطق اليمن خارج هذه المرتفعات، وكانت غالبية مناطق اليمن خارج المرتفعات الشمالية ثريةً بما يغري قوى عديدة باحتلالها، ومن ذلك الاحتلال البرتغالي في القرن السادس عشر.
احتل الإمام يحيى حميد الدين، في ثلاثينيات القرن الماضي، منطقة المقاطرة جنوب تعز بتهمة كفر أهلها، واستخدم علي عبد الله صالح خطاباً تكفيرياً ضد جنوب البلاد في حرب 1994، وسماها حرب الردة والانفصال. وفي 2015، بدأ الحوثيون حربهم المفتوحة، بحجة ملاحقة الإرهابيين التكفيريين أو "الدواعش".
خلّصت ثورة 26 سبتمبر 1962 اليمنيين من حكم الأئمة الذي استمر عشرة قرون، وأخرجتهم من عزلتهم إلى سياق العصر، لكنها احتاجت ما يقارب عشر سنوات لإنجاز مهمتها، والدفاع عن نفسها ضد الثورة المضادة العنيدة التي قادها ورثة الحكم الإمامي، قبل أن يدخل "طرفا" الصراع في تسويةٍ سياسيةٍ تضمنت الاعتراف بالثورة والجمهورية في مقابل استيعاب قوى الثورة المضادة في الدولة اليمنية. وفي هذا السياق، تحالفت قوى كثيرة كانت في صف الثورة مع نظيرتها من الثورة المضادة، لتكوين نظام حكم عصبوي جديد، في إطار الثورة والجمهورية، يعمل على تركيز السلطة والثروة داخل مناطق الجغرافيا الزيدية مجدّداً، وإقصاء المناطق وتهميشها خارج هذه الجغرافيا، بما يحولها إلى تابعة وخادمة لـ"الجغرافيا الزيدية" التي لا تساهم في اقتصاد البلد، إلا بمركزته وتوزيعه، واصطلح على تسميتها "المركز المقدّس"، وبدت مثل ثقب أسود يستهلك حياة اليمنيين وثرواتهم، ويستنزف مناطقهم، فغدت صنعاء مجموعة كبيرة من أحياء عشوائية، تحيط بعدد قليل من الأحياء الثرية التي تتحكم بمصير البلد، واندثرت الحياة، واتسع الفقر في غالبية مدن البلاد ومناطقها.
يقيم في صنعاء مئات الآلاف من أبناء المناطق التي يقاتل تحالف الحوثي وصالح فيها، وخصوصاً من محافظة تعز. لم تحدث أعمال تنكيلٍ أو تصفيةٍ لهم، على الرغم مما شهدته الحرب الحالية من خطابات تحريض ضدهم، لكنها لم تتحوّل إلى ممارساتٍ إلا كتصرفات فردية محدودة، غير أن مليشيات تحالف الحرب تعتقل الآلاف من أبناء هذه المناطق، لأجل انتماءاتهم وهوياتهم.
يخشى تحالف الانقلاب أن يحدث ما ينقل عاصمة البلد إلى مدينةٍ أخرى، أو حصول مناطق ومدن الأطراف على أهميتها التي يفرضها الإنتاج وحياة الناس، فتعود صنعاء إلى وضعها الطبيعي مدينة عادية، لا يتهافت اليمنيون على الرحيل إليها. وتخسر تلك القوى مبرّر قوتها وسطوتها، ما يفسّر حرصها على عدم تعرّض أبناء أي منطقةٍ من خارج "الجغرافيا الزيدية" لأية أعمال عنف ميدانية في مناطق سيطرتهم، وخصوصاً العاصمة صنعاء، فمثل هذه التصرفات ستحَوِّل صنعاء إلى مدينةٍ خاويةٍ إلا من التاريخ.
تحوَّلت صنعاء من حيِّ أثري صغير، كشأن المدن القديمة؛ إلى مدينة تتوسع باستمرار، وتحتكر نسبة عالية من الحياة السياسية والاقتصادية والخدماتية على حساب المدن والمناطق اليمنية التي عانت التهميش والحرمان، وانتقال نخبة متعلميها ومثقفيها إلى صنعاء، حيث فرص العمل والحصول على مختلف الخدمات أفضل وأوفر، بل تضطر الطبقات الدنيا لتحمل أعباء الانتقال إليها، من أجل حصول أبنائها، خصوصاً الإناث، على تعليم أفضل.
تتركَّز الطبقات الاجتماعية الحاكمة في صنعاء، فهي مركز نفوذها، وجميعها تملك مصالح ضخمة هناك، فالأنشطة الاقتصادية والإدارية غير ممكنة بدون التعامل مع صنعاء مركزاً. وعلى الرغم من أن أكبر المجموعات والبيوت والقطاعات الاقتصادية اليمنية نشأت وتنتمي إلى محافظات بعيدة عن العاصمة، لأسباب جغرافية أو ديمغرافية؛ إلا أنها جميعاً تضطر لمركزة أنشطتها في صنعاء، والخضوع لابتزاز (وإجراءات) الطبقة الحاكمة فيها، وهي الطبقة التي شكّلت النظام السياسي الذي أدار البلد إقطاعية خاصة برموزه الذين ينتمي أغلبهم إلى المناطق المحيطة بصنعاء، والتي تعرف بـ"الجغرافيا الزيدية"، ويَستخدم أبناؤها كأتباع عصبويين له، يُزَيِّف وعيهم باصطناع خصومةٍ وهميةٍ بينهم وبين بقية اليمنيين خارج تلك الجغرافيا، بمبرّرات مناطقية وجهوية وطائفية، ويحوّلهم من ضحايا له إلى مدافعين عنه.
لا يظهر التمييز المناطقي في اليمن بمظاهر معتادة ومألوفة، في ممارساتٍ يومية وتصرفاتٍ يُمكن ملامستها في الحياة العامة، كان هذا يحدث سابقاً، فتمركز السلطة والثروة والخدمات في صنعاء حوَّلها إلى مدينةٍ يمنيةٍ حقيقيةٍ، يتعايش فيها اليمنيون جميعاً، لكن طبيعة النظام العصبوي رفضت هذا التعايش، حين واجهته الثورة الشعبية في 2011، فتوجَّه إلى نسفه، بالتحريض ضد جماهير الثورة التي ينتمي غالبية جماهيرها إلى خارج المرتفعات الشمالية التي تُعرف بـ"الجغرافيا الزيدية". وتولى رئيس النظام نفسه، علي عبد الله صالح هذا التحريض. حذّر قبائل جغرافيته من أن سقوط نظامه سيعني خروج السلطة، بكل امتيازاتها، من هذه المنطقة، وكانت هذه أولى مظاهر الثورة المضادة. كانت محافظة تعز وسط البلاد هي الأكثر صخباً وتضحيةً في هذه الثورة، وكان تحريض النظام مركّزاً نحوها.
تحالف نظام صالح مع جماعة الحوثي التي خاض ضدها ست حروب، حين كان رئيساً للبلاد. تحالف خصما الأمس، لتمثيل القوى التي تضرّرت من الثورة الشعبية، والتي تنتمي إلى الجغرافيا نفسها، وفي حربهما الجديدة المشتركة استهدفا كل القوى التي ساندت الثورة الشعبية داخل جغرافيتهما، حتى تمكّنا من الانقلاب على السلطة التوافقية والإجماع الوطني في سبتمبر/ أيلول 2014. وحينها كانت كامل "الجغرافيا الزيدية" تحت سيطرتهما، فبدآ التوسع خارج هذه الجغرافيا، لتأديب معاقل الثورة، وجرى حشد المقاتلين من هذه الجغرافيا إلى جانب وحدات الجيش الذي تنتمي غالبيته وقادته إلى هذه الجغرافيا.
أتقن نظام صالح تعزيز الاستعلاء المناطقي والطائفي والجهوي، لتحويل أبناء "الجغرافيا الزيدية" إلى وقود لمعاركه. كان لهذا الاستعلاء أسبابه التاريخية، فهذه الجغرافيا تتوزع على هضبةٍ عريضةٍ مرتفعة على ما حولها، وهذا يجعلها عصيةً على الغزو، ويمنحها نقطة تفوق عسكرية على بقية المناطق، وإن كان التاريخ يذكر أنها انهزمت في حروبٍ كثيرةٍ أمام قواتٍ من مناطق منخفضة، ومن ذلك الحملة العسكرية التي قادها القائد العسكري للدولة الطاهرية وسط اليمن، عامر عبد الوهاب، في العام 1516، كما أنها تعرّضت لغزو من الدولة السعودية الثانية في العام 1881، وتذكر الروايات التاريخية أن الغزاة غادروا صنعاء بالغنائم والسبايا.
يُعرف تاريخ هذه المرتفعات بندرة الموارد والتوسع الدائم للحصول على موارد غيرها من المناطق، لكن الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي (859 ـــ 911م) وصل إليها من الحجاز، حاملاً المذهب الزيدي بمبدأ حصر الإمامة في نسل الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب؛ ليبدأ فصلٌ جديدٌ وطويلٌ من حروب هذه المرتفعات تحت مظلة طائفية هذه المرة، بدأ الهادي نشر مذهبه بالقوة والبطش، لتحويل أبناء قبائل المرتفعات إلى أتباع ومقاتلين لصالحه.
يشير الباحث أحمد عيد في كتابه "خارطة التوراة في جزيرة العرب" إلى أن المرتفعات الشمالية كانت قبائل زراعية بلا دولةٍ تخوض حروباً ضد المناطق السهلية والساحلية التي عرفت الاستقرار السياسي، نتيجة ارتباطها بالتجارة وطرق القوافل، ونوعاً ما البحر، لكن الإمام الهادي وتابعيه تعاطوا مع خصومهم كـ"كفار تأويل"، وأصدر الإمام المتوكل إسماعيل (1633- 1681م) فتواه "إرشاد السامع إلى جواز أخذ أموال الشوافع"، والشوافع هم أتباع المذهب الشافعي الذي ينتشر في كل مناطق اليمن خارج هذه المرتفعات، وكانت غالبية مناطق اليمن خارج المرتفعات الشمالية ثريةً بما يغري قوى عديدة باحتلالها، ومن ذلك الاحتلال البرتغالي في القرن السادس عشر.
احتل الإمام يحيى حميد الدين، في ثلاثينيات القرن الماضي، منطقة المقاطرة جنوب تعز بتهمة كفر أهلها، واستخدم علي عبد الله صالح خطاباً تكفيرياً ضد جنوب البلاد في حرب 1994، وسماها حرب الردة والانفصال. وفي 2015، بدأ الحوثيون حربهم المفتوحة، بحجة ملاحقة الإرهابيين التكفيريين أو "الدواعش".
خلّصت ثورة 26 سبتمبر 1962 اليمنيين من حكم الأئمة الذي استمر عشرة قرون، وأخرجتهم من عزلتهم إلى سياق العصر، لكنها احتاجت ما يقارب عشر سنوات لإنجاز مهمتها، والدفاع عن نفسها ضد الثورة المضادة العنيدة التي قادها ورثة الحكم الإمامي، قبل أن يدخل "طرفا" الصراع في تسويةٍ سياسيةٍ تضمنت الاعتراف بالثورة والجمهورية في مقابل استيعاب قوى الثورة المضادة في الدولة اليمنية. وفي هذا السياق، تحالفت قوى كثيرة كانت في صف الثورة مع نظيرتها من الثورة المضادة، لتكوين نظام حكم عصبوي جديد، في إطار الثورة والجمهورية، يعمل على تركيز السلطة والثروة داخل مناطق الجغرافيا الزيدية مجدّداً، وإقصاء المناطق وتهميشها خارج هذه الجغرافيا، بما يحولها إلى تابعة وخادمة لـ"الجغرافيا الزيدية" التي لا تساهم في اقتصاد البلد، إلا بمركزته وتوزيعه، واصطلح على تسميتها "المركز المقدّس"، وبدت مثل ثقب أسود يستهلك حياة اليمنيين وثرواتهم، ويستنزف مناطقهم، فغدت صنعاء مجموعة كبيرة من أحياء عشوائية، تحيط بعدد قليل من الأحياء الثرية التي تتحكم بمصير البلد، واندثرت الحياة، واتسع الفقر في غالبية مدن البلاد ومناطقها.
يقيم في صنعاء مئات الآلاف من أبناء المناطق التي يقاتل تحالف الحوثي وصالح فيها، وخصوصاً من محافظة تعز. لم تحدث أعمال تنكيلٍ أو تصفيةٍ لهم، على الرغم مما شهدته الحرب الحالية من خطابات تحريض ضدهم، لكنها لم تتحوّل إلى ممارساتٍ إلا كتصرفات فردية محدودة، غير أن مليشيات تحالف الحرب تعتقل الآلاف من أبناء هذه المناطق، لأجل انتماءاتهم وهوياتهم.
يخشى تحالف الانقلاب أن يحدث ما ينقل عاصمة البلد إلى مدينةٍ أخرى، أو حصول مناطق ومدن الأطراف على أهميتها التي يفرضها الإنتاج وحياة الناس، فتعود صنعاء إلى وضعها الطبيعي مدينة عادية، لا يتهافت اليمنيون على الرحيل إليها. وتخسر تلك القوى مبرّر قوتها وسطوتها، ما يفسّر حرصها على عدم تعرّض أبناء أي منطقةٍ من خارج "الجغرافيا الزيدية" لأية أعمال عنف ميدانية في مناطق سيطرتهم، وخصوصاً العاصمة صنعاء، فمثل هذه التصرفات ستحَوِّل صنعاء إلى مدينةٍ خاويةٍ إلا من التاريخ.