01 مارس 2019
صناعة الحدث.. الصحافي والسياسي
ابتسام تريسي
تحوّلت الصحافة بشكل عجيب إلى "مرصد" تماماً، كالمرصد الجوي الذي يتنبأ بأحوال الطقس، ويُحذِّر المواطن من الريح والعواصف والكوارث المصاحبة للثلج والأعاصير والزلازل، فالمرصد الصحافي يتنبأ بالكوارث قبل حدوثها، إلى درجة توحي بأنّ قرار الحرب بيد الصحافة، لا الإدارة السياسية والعسكرية للدول الكبرى. ولا يمكن ادعاء أنّ الأمر مرتبط بالتّطور التكنولوجي، بل هو قديم، ويمكن تقصّي حدوثه قبل أكثر من قرن، فقد كان الصحافيون الأميركان يعطون لكلّ حادثة بعداً ملحمياً، بما يرضي أصحاب الصحف الذين يتّبعون استراتيجية نشر للحرب، يلعبون فيها دور تجار الحرب، فقد حاول رئيس صحيفة نيويورك، وليام هيرست، عام 1898، التفوّق على منافسه جوزيف بوليتزر بأن شنّ حملة ضدّ الإسبان في أثناء "حرب استقلال كوبا"، كما شن حملة على الدبلوماسية الأميركية، وحقّقت صحيفته مبيعاتٍ هائلة، لكنّ الصحافيين الذين يعملون تحت إمرته تذمروا من أنّ الوضع في كوبا مستقر، ولا شيء يحدث هناك، فقال عبارته الشهيرة: "زوّدوني بالصور أزودكم بالحرب". وبالفعل، انتصر وليام هيرست على منافسه، وحقّق حرباً!
وكان له السبق في عالم الصحافة، في اكتشافه التأثير المباشر والكبير للصورة التي احتلت فيما بعد المرتبة الأولى في عملية جذب القارئ لشراء الصحيفة وقراءة الخبر. كما لعبت دوراً مهماً وأساسياً في صياغة آراء الجماهير، والاستحواذ على تعاطفهم وتأييدهم الحرب على البلاد المقصودة من تجار الصحافة والحروب، قبل السياسيين والعسكر. وصارت سياسته أنموذجاً للصحافيين بعده، فبعد نحو قرن، ظهر روبرت مردوخ الذي قامت قناته، فوكس نيوز، بالتّحريض على الحرب في العراق. وقد ساند الحرب وشجّع عليها، حتّى حصلت كما أراد! وهذا بالطبع لا ينفي رغبة الإدارة الأميركية في الحرب، ولا القرارات المتخذة في البيت الأبيض، لكنّه يُبرز الدور الخطير للصحافة والإعلام في صناعة الحروب، كما يؤكد دورها في الانتصارات والهزائم.
لم يخطف خبراء الإرهاب، ورؤساء المراكز والمراصد الذين ظهروا بعد أحداث "11
سبتمبر" دور الإعلاميين، لكنّهم قضوا على الصحافة المكتوبة التي تراجع دورها في ظلّ الاكتساح الإلكتروني الذي سهّل الوصول إلى شريحة أكبر من القرّاء عبر الكرة الأرضية. وكان عليهم أن ينشروا القلق والخوف من قضايا أكبر وأضخم مما سبق لأسلافهم من الصحافيين أن حقّقوها، الانتشار السهل والسريع لا ينفي صعوبة المهمة وخطورتها.
ولكي تكون القضية على مستوى الانتشار وبقوته، روّج هؤلاء فكرة الاعتداء بالوسائل الكيميائية والنووية والجرثومية، واعتبروها خطراً بات وشيك التحقّق. وقد داروا في فلك تلك الفكرة، وتورّطوا في صراع حقيقي لتحقّقها، فاختاروا لها طاغية من العالم الثالث، يملك الاستعداد الكافي لحرق كلّ شيء في سبيل بقائه على كرسي الحكم.
وقد راهنت صحف عملاقة على جعل رجلٍ ما يعض كلباً حسب مفهوم الصحافة للخبر، إلا أنّ السّياسيين في العصر الحديث التقطوا هذه الفكرة، ونحتوا منها السّؤال الأهم الذي يتوافق مع إراداتهم: كيف نجعل رئيس دولة يعضّ شعبه؟ ووجدوا في بشار الأسد ضالتهم. وإذا كانوا قد منحوا صدام حسين تأشيرة دخول إلى الكويت، عبر السّفيرة إبريل غلاسبي، في ربيع 1990، فقد منحوا بشار الأسد تأشيرات دخول إلى حمامات الدم، حتّى تجاوز عدد القتلى المليون إنسان.
وقد لا يحتاج الطغاة إلى مثل هذا التحريض لارتكاب المجازر، لكنّ الإشارة إليه قبل وقوعه يعتبر "ضوءاً أخضر"، يفيد بأنّ الطريق سالك وآمن، والوقت مناسب لتنفيذ الفكرة. ما تنبأت به المراصد وقع، لم يكن تنبُؤاً بمقدار ما كان خطةً مرسومة تمّ التخطيط لها وتسريبها.. لقد استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الغوطة، ومرّ الأمر بشكل سلس وآمن، ثمّ استخدمه في خان شيخون، وكان الأمر أكثر أماناً.. تنبأت المراصد، وهي تراهن على وقوع الأمر في حمّى المتاجرة بأرواح البشر، لتحقيق نصر "إعلامي"، وثقة مطلقة من المتابعين والقرّاء والخائفين على أرواحهم في العالم.
وإذا كان هدف الصّحافي الشّهرة والربح، فإنّ أهداف السّياسي أكثر من ذلك بكثير، ففي غضون سبع سنوات، عادت الاحتلالات المباشرة إلى الظهور، بعد أن كان القرن العشرون قد قضى على الفكرة تماماً، فاليوم نرى سورية موزعة بين أربعة احتلالات مباشرة، عدا عن قواعد عسكرية لدول أخرى. لقد استطاعت وزيرة خارجية أميركا سنة 2000، مادلين أولبرايت، تعيين الرئيس المناسب لدولةٍ مطلوب عضّ شعبها.
وكان له السبق في عالم الصحافة، في اكتشافه التأثير المباشر والكبير للصورة التي احتلت فيما بعد المرتبة الأولى في عملية جذب القارئ لشراء الصحيفة وقراءة الخبر. كما لعبت دوراً مهماً وأساسياً في صياغة آراء الجماهير، والاستحواذ على تعاطفهم وتأييدهم الحرب على البلاد المقصودة من تجار الصحافة والحروب، قبل السياسيين والعسكر. وصارت سياسته أنموذجاً للصحافيين بعده، فبعد نحو قرن، ظهر روبرت مردوخ الذي قامت قناته، فوكس نيوز، بالتّحريض على الحرب في العراق. وقد ساند الحرب وشجّع عليها، حتّى حصلت كما أراد! وهذا بالطبع لا ينفي رغبة الإدارة الأميركية في الحرب، ولا القرارات المتخذة في البيت الأبيض، لكنّه يُبرز الدور الخطير للصحافة والإعلام في صناعة الحروب، كما يؤكد دورها في الانتصارات والهزائم.
لم يخطف خبراء الإرهاب، ورؤساء المراكز والمراصد الذين ظهروا بعد أحداث "11
ولكي تكون القضية على مستوى الانتشار وبقوته، روّج هؤلاء فكرة الاعتداء بالوسائل الكيميائية والنووية والجرثومية، واعتبروها خطراً بات وشيك التحقّق. وقد داروا في فلك تلك الفكرة، وتورّطوا في صراع حقيقي لتحقّقها، فاختاروا لها طاغية من العالم الثالث، يملك الاستعداد الكافي لحرق كلّ شيء في سبيل بقائه على كرسي الحكم.
وقد راهنت صحف عملاقة على جعل رجلٍ ما يعض كلباً حسب مفهوم الصحافة للخبر، إلا أنّ السّياسيين في العصر الحديث التقطوا هذه الفكرة، ونحتوا منها السّؤال الأهم الذي يتوافق مع إراداتهم: كيف نجعل رئيس دولة يعضّ شعبه؟ ووجدوا في بشار الأسد ضالتهم. وإذا كانوا قد منحوا صدام حسين تأشيرة دخول إلى الكويت، عبر السّفيرة إبريل غلاسبي، في ربيع 1990، فقد منحوا بشار الأسد تأشيرات دخول إلى حمامات الدم، حتّى تجاوز عدد القتلى المليون إنسان.
وقد لا يحتاج الطغاة إلى مثل هذا التحريض لارتكاب المجازر، لكنّ الإشارة إليه قبل وقوعه يعتبر "ضوءاً أخضر"، يفيد بأنّ الطريق سالك وآمن، والوقت مناسب لتنفيذ الفكرة. ما تنبأت به المراصد وقع، لم يكن تنبُؤاً بمقدار ما كان خطةً مرسومة تمّ التخطيط لها وتسريبها.. لقد استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الغوطة، ومرّ الأمر بشكل سلس وآمن، ثمّ استخدمه في خان شيخون، وكان الأمر أكثر أماناً.. تنبأت المراصد، وهي تراهن على وقوع الأمر في حمّى المتاجرة بأرواح البشر، لتحقيق نصر "إعلامي"، وثقة مطلقة من المتابعين والقرّاء والخائفين على أرواحهم في العالم.
وإذا كان هدف الصّحافي الشّهرة والربح، فإنّ أهداف السّياسي أكثر من ذلك بكثير، ففي غضون سبع سنوات، عادت الاحتلالات المباشرة إلى الظهور، بعد أن كان القرن العشرون قد قضى على الفكرة تماماً، فاليوم نرى سورية موزعة بين أربعة احتلالات مباشرة، عدا عن قواعد عسكرية لدول أخرى. لقد استطاعت وزيرة خارجية أميركا سنة 2000، مادلين أولبرايت، تعيين الرئيس المناسب لدولةٍ مطلوب عضّ شعبها.
دلالات
مقالات أخرى
13 فبراير 2019
01 يناير 2019
11 ديسمبر 2018