صلاح عيسى يروي ذكريات حبسة سبتمبر (1)

17 سبتمبر 2018
+ الخط -
قبل أن يَبتلي أغلب المصريين أنفسهم بإيصال عبد الفتاح السيسي إلى كرسي الحكم، ظلت اعتقالات سبتمبر 1981 وعلى مدى ثلاثة عقود، الفعل السياسي الأكثر حماقة الذي يمكن أن يرتكبه حاكم في حق بلاده وقبل ذلك في حق نفسه ونظامه.

بالطبع لم تكن اعتقالات سبتمبر التي حملت لقب (حبسة سبتمبر) هي حملة الاعتقالات الأولى التي تُجسِّد غضب حاكم على معارضيه في التاريخ المصري الحديث، لكنها كانت الأكثر شمولاً واتساعاً، فلم يتعرض فيها للاعتقال أنصار فصيل سياسي واحد أو اثنين، كما كان عليه الحال من قبل، بل قرر أنور السادات فيها أن يضع مصر كلها في المعتقل دون مبالغة، ليشن حملة اعتقالات "كوكتيلية" الطابع شملت المشاهير والمغمورين، النشطاء والخاملين واليائسين، المفكرين والكُتّاب والعمال والمهنيين ورجال الدين الإسلامي والمسيحي، الإخوان والوفديين والشيوعيين والمستعصين على التصنيف.

بحسب شهادات عديدة من مسئولين في عهد السادات، كان مقدراً لهذه "الحبسة" أن تستمر لمدة عام على الأقل أو عامين على الأكثر، حتى ينتهي السادات من تنظيم ما أحدثته فوضى "ديمقراطيته" التي لم يصدق الكثيرون من المعارضين تأكيده السابق على أن لها "أظافر وأنياب"، لكن الأيام أثبتت أن الخطر الحقيقي على شخص السادات ونظامه، لم يكن بين الذين قام باعتقالهم من أهل السياسة والفكر والرأي، بل كان كامناً داخل "جيشه" وبين جنوده أو "أولاده" كما كان يحب أن يسميهم، والذين خرج من بينهم من اغتاله في ذكرى اليوم الذي كان يستغرب دائماً كيف نسيه له معارضوه وناقدوه، الذين لم يطُل سجن من حبسه منهم، ليخرجوا بعد أشهر من قتله الواحد تلو الآخر، ليواصلوا حياتهم، وتواصل مصر رحلتها مع خليفته الذي حرص على أن يستقبل عدداً من المفرج عنهم في حركة استعراضية كان يقصد بها وضع حدود فاصلة بينه وبين سلفه.



ظل حسني مبارك يتذكر حبسة سبتمبر على الدوام، واعتبرها خطأً كبيراً وقع فيه أستاذه، حين أعطى للمعارضة قوة إضافية بقمعها، وساعد على تجبيهها في كتلة واحدة، ولذلك قرر أن ينشغل باستراتيجية تمييع المعارضة وتفتيتها، بدلاً من تقويتها بالدخول معها في مواجهات، مكتفياً باستخدام سياسة القبضة الحديدية فقط مع من يمثل خطراً حقيقياً على استقرار النظام، تاركاً لغيرهم حرية النقد والسخرية والصراخ إن لزم الأمر، وهي استراتيجية ساعدته على البقاء طويلاً في الحكم، لكنها كانت في الوقت نفسه سبباً في تنشئة أجيال تمردت على النظام السياسي القائم بحكومته ومعارضته، وهي الأجيال التي تسببت في الإطاحة به، فمنحت بذلك درساً مهماً لخليفته عبد الفتاح السيسي، الذي أدرك خطورة السماح بوجود هوامش للحرية والحركة في المجال العام، ولذلك قرر الحكم بالحديد والنار، متبعاً أسلوب الصدمة والترويع عبر مذابح متتالية وحملات اعتقال لمعارضيه من كافة التيارات، لتبدو حبسة سبتمبر فعلاً رومانسياً، مقارنة بحملات اعتقالات السيسي التي لا تفرق بين شهر وآخر، ولا تقيم أدنى وزن لأحوال المساجين الصحية والإنسانية، بشكل يتجاوز كل ما حدث في سنوات حكم سابقيه.



مع ذلك، تظل حملة اعتقالات سبتمبر 1981 حدثاً شديد الأهمية والتأثير، يتوقف عنده كل من يدرس تاريخ مصر المعاصر ويهتم به، ولذلك حرصت حين بدأت سنة 1998 في كتابة كتاب عن فترة حكم أنور السادات، على أن ألتقي بالكاتب الكبير صلاح عيسى الذي كان قد كتب في بعض مقالاته شذرات متناثرة عن بعض ذكريات أيام الحبسة، كان من أهمها روايته ما جرى للسياسي عبد العظيم أبو العطا وزير الري السابق الذي وافته المنية خلال وجوده في المعتقل، لكن الأستاذ صلاح مع ذلك لم يقم بكتابة شهادة كاملة حول تجربة حبسة سبتمبر، مع أنه كان يحمل لقب (الدينامو) الذي أطلقه عليه الكثير من شركاء الحبسة، بعد أن تم اختياره ليكون مندوب المعتقلين لدى إدارة السجن، يحمل طلباتهم إليها، ويجاهد من أجل إقناع الإدارة بتحقيقها، ثم أصبح بعد ذلك رئيس تحرير مجلة (الزنزانة) الإذاعية، والتي كانت تصدر صباح كل يوم من زنزانة صلاح عيسى وفؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد ومحمد عبد السلام الزيات وزير الخارجية السابق، والتي لا تزال حتى الآن من أشهر التجارب الإعلامية في تاريخ السجون المصرية.

حين حاورت الأستاذ صلاح عيسى رحمه الله عن ذكريات حبسة سبتمبر، كنت أحظى بعلاقة ودودة جداً معه، لم أكن قد اشتركت معه في تأسيس جريدة (القاهرة) التي عملت معه مديراً لتحريرها لعدة أشهر، قبل أن أتركها بعد خلاف حاد مع إدارة الجريدة ومعه، سأروي تفاصيله في موضع آخر، ومع أن الحوار كان سينشر في صحيفة عربية لا تحظى بأي انتشار داخل مصر، إلا أن الأستاذ صلاح تحمس لمنحي الكثير من وقته الثمين، حين عرف أن الحوار سيكون جزءاً من كتاب عن فترة حكم السادات، وقال إن الحوار سيحقق له فرصة مؤجلة للمساهمة في توثيق تجربة مهمة، لم يتح له أن يكتب تفاصيلها بسبب مشاغله المتلاحقة التي قادته من تجربة صحفية إلى أخرى، لتمنعني بدوري مشاغل متلاحقة من إكمال كتابة الكتاب الذي رافقتني مسوداته وفصوله غير المنجزة عبر السنين، وكنت قد نشرت في "العربي الجديد" بعضاً من فصوله قبل أكثر من عامين، وأتمنى أن يتاح لي عبر الأشهر القادمة نشر المزيد من فصوله بإذن الله.

أترككم مع كل ما حكاه الكاتب الكبير صلاح عيسى رحمه الله عن حبسة سبتمبر 1981 بكل من كان فيها من شخصيات بارزة لعبت دوراً مهماً في تاريخ مصر قبل الحبسة وبعدها، وبكل ما حدث فيها من وقائع مهمة يمتزج فيها الضحك بالبكاء، كشأن كل ما له علاقة بمصر.

من المسؤول؟


ـ أستاذ صلاح، قبل حبسة سبتمبر 1981، كان قد سبق لك أن سُجِنت وتعرضت للتعذيب في عهد عبد الناصر وعهد السادات، أي أنك أصبحت تمتلك خبرة "رد المعتقلات" والتي تمنح لكثير ممن يمتلكونها القدرة على توقع موجات الاعتقال القادمة بشكل كثيراً ما يصيب، هل كنت تتوقع قبل 5 سبتمبر 1981 أن يحدث ما حدث؟

بالتأكيد، الأوضاع في مصر كانت متدهورة إلى حد غير عادي على كل الأصعدة، توتر سياسي خارجي وقطيعة عربية، وتوتر إضافي خلقه قيام الثورة الإسلامية في إيران وأثّر ذلك على تصاعد نفوذ الجماعات الإسلامية، وأدى إلى وقوع غليان سياسي داخلي من كل القوى والتيارات السياسية، وأي مراقب للوضع كان متأكداً من أنه لابد ستحدث اعتقالات، لكن أشد المراقبين تشاؤماً لم يكن يتوقع أن تحدث بهذا الشكل، والذي أعطى حملة الاعتقالات خصوصية في تاريخ مصر، يعني لم يحدث قبل ذلك أن تم في نفس الوقت اعتقال جميع رموز الاتجاهات السياسية المختلفة حتى المستقلين الذين اتخذوا آراء معارضة بشكل هادئ.

ـ هناك تبادل للاتهامات حول تحمل مسؤولية قرار اتساع حملة الاعتقالات، النبوي إسماعيل وزير الداخلية وقتها قال في حوارات كثيرة إن السادات هو المسؤول الأول والأخير وأنه نصحه بألا تكون الحملة بهذا الاتساع، بينما قالت جيهان السادات في حوار أجريته معها إن النبوي بالتحديد هو المسؤول عن كون الحملة بهذا الاتساع وإنه أصر عليه في حين تحفظت هي على الحملة، في رأيك من الذي يتحمل المسؤولية؟
بالطبع هناك أطراف كثيرة ووجهات نظر مختلفة لكن المسؤولية الأساسية يتحملها النبوي إسماعيل الذي كان على عكس من جاؤوا قبله، وزير داخلية لا علاقة له بالسياسة، مصر منذ عهد عبد الناصر تعودت على أن يكون وزير الداخلية ضابط أمن دولة أصلاً، وبالتالي يكون لديه عقلية سياسية، وقد يأتي من المخابرات العامة مثل شعراوي جمعة، وقبل ثورة يوليو وزير الداخلية يكون عادة رئيس الوزراء أو سكرتير عام الحزب الذي يتولى السلطة، ولذلك كان شخصية سياسية، أما النبوي إسماعيل بالتحديد فكان ضابط سكة حديد، مهمته ضبط النشالين في القطارات والقبض على من يركب بدون تذاكر أو يسرق "الفلنكات"، ومهما كانت هذه المهمة مهمة إلا أنها تعني أن تفكيره غير سياسي ولذلك كان طبيعيًا أن يكون مسؤولاً عن تصرف مثل هذا له دلالات ونتائج سياسية خطيرة.



ـ لكن من وجهة نظر سياسية أيضاً، حين تكون حركة المعارضة واسعة القدر ومتنوعة بهذا الشكل، لا بد أن رئيس الدولة سيصدق وزير داخليته حين يقول له إنها تمثل خطورة سياسية حقيقية على النظام؟
بشكل عام، كان واضحاً أن الدولة مهزوزة من داخلها من المعارضة، بصرف النظر عن مدى القوة الفعلية لكل طرف من أطراف المعارضة، وهذا الاهتزاز هو الذي أدى إلى توسع الدولة في البطش، مع أنها كان يمكن أن تكتفي باعتقال قادة التيارات الإسلامية، أو اعتقال قادة حزب التجمع اليساري الذي كان في ذلك الوقت في سنوات صعوده، وكان معارضاً شرساً للسادات ومؤثراً من الناحية الإعلامية بشكل كان يزعج السادات جداً، أعتقد أن ما زاد في اهتزاز الدولة هو أن المعارضة العربية لنظام السادات، كان لها قوة تعضد قوة المعارضة المصرية بدون اتفاق فعلي، كان هناك إذاعات عربية عديدة وصحف كثيرة تشن حملات متواصلة على النظام، وكان هناك معارضون مصريون كثيرون مقيمون في الخارج يتضامنون مع المعارضة المصرية التي كانت تزعج النظام، برغم أنها كانت غير منظمة بشكل كامل، لكنها كانت حاضرة في الشارع، وكان امتدادها العربي والدولي يمثل إشكالية حقيقية لحكم السادات.

أولها نوم!

ـ تعال نبدأ بالحديث عن ذكريات اعتقالك منذ البداية؟
(ضاحكاً) عندي خبرة من زمان أن أي واحد يضرب جرس الباب بعد الساعة الواحدة ليلاً يكون البوليس بدون شك، تم اعتقالي يوم 3 سبتمبر ليلاً، حيث لم تكن كل الاعتقالات يوم خمسة سبتمبر كما يظن البعض، كنت ليلتها قد شاهدت التلفزيون، ودخلت لأنام ونمت، الساعة الواحدة بالضبط دق الباب، فعرفت فوراً أن هناك حملة اعتقالات فقد كان هناك اتجاه سياسي في الحديث عن الفتنة ومثير الفتنة، وكان واضحًا من الخط الدعائي الحكومي أن الضرب سيكون أساساً في الاتجاه اليساري، ولذلك عندما وصلت السجن فوجئت بحجم الناس الموجودين معي في الزنزانة التي أقمت فيها في أول يوم.



بالمناسبة أنا لي عادة أفعلها عندما أدخل السجن، وهي إني أنام على طول، لأني لا أنام خارج السجن كثيراً، وتعودت على ذلك لأنك مادمت ستظل في السجن على الأقل عدة شهور، فلابد أن تريّح جسمك يعني عشان تعرف تفكر فيما أنت مقدم عليه (يضحك) ولذلك نمت أول يوم كاملاً بشكل متواصل عرفت أنه أثار استغراب وغيظ من كانوا معي في الزنزانة، وعندما صحوت من النوم وجدت معي في الزنزانة 10 شخصيات كلهم ينتمون لجماعة التكفير وجماعة الإخوان المسلمين والجهاد، وكنت اليساري الوحيد وسطهم، وطبعاً كان فيما حدث مفارقة مثيرة للسخرية، لكن إعلان السخرية في حالة كهذه ليس مأمون العواقب (يضحك) وعندما بدأنا نتحدث مع باقي الزنازين عبر القضبان فهمنا خط الاعتقالات وأنني لم أكن اليساري الوحيد المعتقل وبالتالي فتوزيعي في هذه الزنزانة مقصود منه أن لا يتجمع من يعرفون بعضهم في زنازين واحدة، وعندما تسربت لنا الصحف بعدها، عرفنا أن هناك شخصيات كبيرة تم اعتقالها مثل هيكل وفؤاد سراج الدين وإسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي وغيرهم وأن الحملة واسعة جداً وشملت قرارات عزل البابا شنودة ونقل أساتذة جامعة وصحفيين من وظائفهم في حملة تنكيل واسعة جداً.


ـ كنتم في سجن طرة؟
لا .. كنا في سجن الاستقبال، وكان جديدًا وافتتحناه كأول مساجين، وكان مخصصًا لسجن المحبوسين احتياطيًا، وبعد "حبسة" سبتمبر قرروا إعادة التصنيف بحيث يخصص هذا السجن لأعضاء الإخوان والجماعات الإسلامية، أو من يسمون بالسياسيين المدنيين، وتم نقلنا إلى سجن مستقل مجاور تمت تسميته بالسجن السياسي، وهو سجن صغير من دورين حوله حديقة، وهو أصلاً كان مبني مخصصًا لمرضى الدرن المسجونين في ليمان طره، وفي فترة معينة تم التحفظ على مجموعة من أنصار المشير عبد الحكيم عامر به، وآخر الذين كانوا يشغلونه قبلنا مجموعة المعتقلين في أحداث 15 مايو المشهورة بثورة التصحيح (يضحك) والذين عاد منهم معنا إلى السجن معتقلان بعد أن كانا قد غادراه لمدة شهرين أو ثلاثة، هما محمد فايق وفريد عبد الكريم واللذين كانا قد أمضيا 10 سنوات كاملة في هذا السجن، وبالتالي فإن تاريخ السجن الحافل بالقضايا السياسية أدى لاختياره ليكون مقراً لاعتقال أغلب محابيس سبتمبر.

الباشا والأستاذ!

ـ من كان معك في زنزانتك الجديدة؟
أول ما سكنت في زنزانة كنت مع فؤاد سراج الدين، والتسكين كان سياسياً في رأيي، ويبدو أنه تم عمله من قبل ضباط الأمن على أساس أننا سنتخانق مع بعض طول الوقت، ولذلك لم يقوموا بتسكين المتجانسين سياسياً مع بعضهم، كل زنزانة كان فيها 3 متهمين كل واحد منهم ينتمي لتيار، يعني أنا كنت في زنزانة مع فؤاد سراج الدين ومحمد عبد السلام الزيات الذي كان محسوبًا كمعارض وقتها لكنه كان من رجال السادات السابقين، وكان من قادة انقلاب 15 مايو الذي أطاح رجال عبد الناصر إلى أن اختلف مع السادات بعد ذلك وترك الحكم، والباشا سراج الدين المفروض أنه إقطاعي ورجعي، والمفروض في رأيهم أنني ماركسي متشدد، ولذلك توقعوا أن تشتعل هذه الزنزانة بالخلافات.

في زنزانة أخرى، وضعوا محمد حسنين هيكل مع عبد العظيم المغربي وهو ناصري متشدد، بينما هيكل له مواقف من الناصريين المتشددين، بعد أن انحاز إلى السادات ضدهم في بدايات حكم السادات، ووضعوا معهما عاملاً شيوعياً اسمه كمال بسيوني، يعني هناك تباين في المستوى الاجتماعي وتباين في الأفكار السياسية، وكل الزنازين كانت على هذا الشكل المضحك، وكان يمكن أن يحدث بالفعل شد وجذب، لكن الجميع كانوا أذكياء فلم تحدث أي معارك وذلك لأنه كان هناك تقاليد أهمها احترام الكبير واحترام الخلاف في الرأي، خاصة أنه كان عدد من الذين اعتقلوا سياسيين مخضرمين، ولم تحدث إلا مواقف بسيطة كانت تتحول للنكت.

ـ مثل ماذا؟
مثلاً كنت أنا وبعض الزملاء نقول لفؤاد سراج الدين يا فؤاد باشا، وكان معنا كمال أحمد وهو قطب ناصري كبير، وكان يأخذ ذلك علي ويقول لي: "إزاي تقول له يا باشا وانت يساري"، وكنت أقول له: "هذا لقب تاريخي لا علاقة له بأي تصنيف طبقي، يعني تقدر تعتبره مثل مصطفى كامل باشا وأحمد عرابي باشا الذي ألف الشعب المصري له موالاً يقول: يا مصر قومي من طلعة الفجر يا مصر يا عياشة وقمّري العيش ومدى إيديكي لأحمد عرابي باشا، رغم أنه لم يكن وقتها باشا، وكذلك سعد زغلول كان الجميع ينادونه سعد باشا قبل أن يحصل على رتبة الباشاوية، وفي النهاية بغض النظر عن أي خلاف سياسي يظل قائماً ولا يتم التنازل عنه، فؤاد سراج الدين تاريخ، ولذلك أناديه بهذا اللقب التاريخي"، والحقيقة أنه بدون حتى أن يقتنع البعض بهذا التأصيل التاريخي (يضحك) كان كل من في السجن ينادي فؤاد سراج الدين بالباشا ما عدا كمال أحمد يناديه "يا أستاذ فؤاد"، وفي يوم كان كمال أحمد ماراً على فؤاد سراج الدين فقال له: صباح الخير يا أستاذ فؤاد، فرد عليه: صباح النور يا كمال باشا، ومتنا كلنا من الضحك.

كان معنا أيضاً الدكتور عبد المحسن حمودة وهو من كبار عناصر الطليعة الوفدية التي كانت تضم بعض العناصر اليسارية التي انضمت إلى حزب الوفد في أواخر الأربعينات للتحرك الشعبي من داخله والوصول إلى جماهيره العريضة، وهؤلاء كانوا يعتبرون فؤاد سراج الدين بالتحديد هو السبب في كوارث الوفد التي باعدت بينه وبين الجماهير وسّهلت إطاحة ثورة يوليو به، ولذلك في بداية الحبسة كان الدكتور عبد المحسن كلما يسمع فؤاد سراج الدين يتكلم في أي حاجة، يقوم "لادعه" كلمتين ويرد عليه بحدة، وكان يفعل ذلك مع هيكل أيضاً، لأنه كان يرى أنه لعب دوراً مريباً، عندما كان مراسلاً عسكرياً لصحيفة "أخبار اليوم" في حرب كوريا سنة 1950، وكانت لفة بعيدة جداً لكن الدكتور عبد المحسن كان ليه تأصيل ليها يخليه مقتنع بموقفه تماماً، لكن على أية حال كل هذه المواقف كانت تمر في نهاية المطاف.

هيكل محبوساً

ـ وكيف استقبل محمد حسنين هيكل تجربة الاعتقال التي كانت جديدة عليه بالمرة على عكس أغلب زملاء الحبسة؟

ربما لأنها كانت التجربة الأولى بالنسبة له، أدرك أنه في حاجة إلى صحبة هذه الجماعة السياسية مختلفة الأطياف والتي كان بعيداً عنها طيلة السنوات الماضية، ولذلك تفاعل معها بسرعة شديدة، لكنه في الوقت نفسه توقع التفاصيل التي ستضايقه، ولذلك كان يسد أذنيه وينام عندما لا يعجبه الكلام، ولكن لأن السماعات التي كان يضعها في أذنيه كانت سماعات صغيرة جداً وكانت غير مألوفة بالنسبة لنا في مصر، فقد ظللت لفترة لا أعرف أصلاً أنه يستعمل سماعات أذن، إلا في إحدى المرات عندما قدمت في الإذاعة اليومية تحليلاً عن الجماعات الإسلامية، وفي الصباح التالي جاءني أثناء التمشية وقال لي: "بلغني أنك قلت تحليلاً مهماً عن الجماعات الإسلامية"، فظننت أن في حديثه نبرة تعال، فقلت له ساخراً: "بلغك إزاي وهل كنت في سجن تاني لما بلغك ده"، لأن السجن صغير جدًا ولازم تسمع صوت من يتكلم حتى لو كان في زنزانة أخرى، فما بالك بواحد بيزعق وهو بيتكلم مثل حالاتي، فضحك وقال لي: "أنا أصل كنت حاطط في وداني السماعات"، لكن على أية حال اتضح لي بعد ذلك إنه أصلاً كان يضع السماعات باستمرار لكي يدعي أنه لا يسمع ما لا يعجبه، لكن هو سامع كل حاجة طبعاً (يضحك)





حمارين حديد للباشا!


ـ كيف كانت معاملة إدارة السجن معكم؟

تستطيع وصفها بأنها كانت معاملة فيها أدب مزيف، كان لدى الضباط تعليمات بأن يعاملونا بصورة طيبة، لكن عندما نطلب طلبًا يقومون بتأخيره، فمثلاً فؤاد سراج الدين كان جسمه ضخماً جداً، وعنده ضعف في سيقانه، وكان نومه على الأرض مشكلة، وقيامه مشكلة لأنه يحتاج لمن يساعده، وكان كل طلباته هو أنه محتاج ما كنا نسميه "حمارين حديد" ليستعين بهما في القيام، أو حتى لوحين خشب توضع عليهما المرتبة الكاوتش لتصبح مرتفعة عن الأرض، لكي يستطيع النزول من علي المرتبة بسهولة عندما يصحو، لأنه لم يكن يريد باستمرار أن يساعده أحد، كانت فكرة اضطراره للاستعانة بأحد كلما رغب في أن يقوم تضايقه جداً.
طبعًا محمد عبد السلام الزيات كانت لديه نفس المشكلة وكان مريضاً جداً، وكان يتردد كثيراً على دورة المياه، وقمنا بالتوسل لإدارة السجن في طلبات رسمية استمرت عشرة أيام أن يقوموا بمعاملة الاثنين معاملة خاصة، كتبنا لمصلحة السجون، لم يستجب أحد، أحياناً كانوا يأخذون الزيارات والمعلبات التي تأتينا ويمنعونها عنا ويأخذون ملابسنا المدنية ويعطوا الشخص ما يحتاجه فقط وفي أضيق الحدود، وذلك لكي يضايقوا المساجين، وعندما تطلب مثلاً "علبة سالمون" من التي جاءتك في الزيارة، تظل تطلبها بالساعات الطويلة ويضيع اليوم ولا تأتيك، بدعوى أنهم يبحثون عن الشخص المسؤول الذي يحمل مفتاح الزنزانة التي يضعون فيها المعلبات، وذلك في محاولة لإثارة قرف وضجر المساجين.

ـ لكن لم يكن هناك تعذيب؟
لا، لم يحدث تعذيب لنا ولا لغيرنا، ولكن بعد اغتيال السادات حدث تعذيب للجماعات الإسلامية وإساءة معاملة فظيعة لمن تم اعتقالهم بعد اغتيال السادات، بمن فيهم مجموعة من اليساريين، كانوا حوالي 150 يسارياً، لم يثبت تورطهم في أي عنف ولكن تم اعتقالهم لتأمين الوضع وتعرضوا لمعاملة شديدة السوء، أما نحن فعلى العكس بعد أن مات السادات عوملنا معاملة حسنة لم يسبق لها مثيل، ولن يتلوها شبيه في تاريخ السجون المصرية.


نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.