صفحة من الماضي الأليم

19 نوفمبر 2015
+ الخط -

"شوفوا لكم حلا معي، لأنني لا أريد أن أؤمن أبداً أن سوء الظن من حسن الفطن. ولذلك، هرعت، أول من أمس، لكي أشاهد اللقاء الذي حاور فيه التلفزيون العسكري كلا من اللواءين محمد العصار ومحمود حجازي، عضوي المجلس العسكري. تخيلوا أنني، بعد كل ما حدث للبلاد والعباد، كان لدي أمل في أن أرى لقاءً يحترم عقول الناس، لكي نخلص من النفق المظلم الذي ندخله بإصرار. كنت متعطشاً لأي قرارات ترتقي إلى مستوى الحدث، لكنني فوجئت بأن عقلية الإنكار مازالت سيد الموقف، من دون أن يدرك أحد أنها تشكل خطورة على مصر. تخيلوا أنني، من فرط سذاجتي، كنت أظن أن اللقاء سيطلع على الناس بقراراتٍ، تعلن إحالة ضباط شرطة وجيش إلى المحاكمة العسكرية، لأنهم ارتكبوا انتهاكات بحق الإنسان، شاهدها الملايين في العالم، لكي يتأكد أن ما شاهدناه كان تصرفات فردية، وليس بناءً على أوامر، لكن اللواء العصار اكتفى بإعلان أسفه لما حدث بكلمات عمومية، تشبه ما قاله عقب مذبحة ماسبيرو، ليتضح أنه يشغل، الآن، منصباً جديداً هو مساعد المشير طنطاوي، لشؤون الأسف، فقط لأن أحداً ما في المجلس العسكري يتصور أن الأسف، إذا جاء على لسان المشير طنطاوي شخصياً، سيقلل من مكانته وهيبته، وهو ما يعد استمراراً غريباً للطريقة التي كان يفكر بها مبارك الذي يبدو أنه لم يكن وحده الحاصل على "دكتوراه في العِند".

لم يدم مفعول أسف اللواء العصار طويلاً، فقد جاء اللواء منصور العيسوي وزير الداخلية الذي كنا نحسبه مستقيلاً، والله حسيبه، لكنه دخل على هواء القناة الأولى الملوث بالغاز، لينسف ذلك الأسف على الفور. الرجل الذي فرحنا، في البداية، بأنه مثقف، ثم اتضح أن ثقافته لعنة على مصر وعلينا، لأنه، على ما يبدو، يؤمن بالفلسفة العدمية، فهو كلما تسببت وزارة الداخلية في مجزرة، خرج ليؤكد عدم وجودها أصلاً. في السابق، قال إنه لا يوجد قناصة من أساسه في وزارة الداخلية، وهذه المرة نفى أن "الداخلية" أطلقت أصلا على المتظاهرين الرصاص الحي، أو الخرطوش، وكل ما فعلته هو إطلاق الغاز، ولم يقل له المذيعان إن اللواء العصار كان لتوه قد اعتذر للشعب المصري عما حدث في شارع محمد محمود. سبحان الله، ربك كريم ولا يرضى بأن تضيع دماء الشهداء والجرحى أونطة. ولذلك، ساق العيسوي، ليتحدث، في هذا التوقيت بالذات، من دون أن يدرك أنه أبطل مفعول اعتذار العصار الذي كان يعلق المجلس عليه آمالاً كثيرة، فكيف أصدق أنك جاد في اعتذارك، وأنت تحتفظ بوزير داخلية ينكر أنك فعلت ما يستوجب الاعتذار من أساسه.

الأسف، هذه المرة، سيأتي مني أنا، لأنني تمسكت بحسن الظن، أملا في صلاح الأحوال، كنت أظن أن أحداً ما في المجلس العسكري والأجهزة الأمنية المعاونة له سيكون لديه من الحصافة ما يجعله يضحّي بأفرادٍ لكي ينقذ البلاد، لكن الجميع صمم على التجاهل والإنكار لكل تفاصيل المشهد الذي يخزق وضوحه عين الشمس. كنت أتمنى أن ينهر اللواءان مسؤولي التلفزيون، لإصرارهم على التركيز على صور لأطفال يرشقون الداخلية بالحجارة لتسفيه ما يجري. كنت أتمنى أن يستنكرا تركيز التلفزيون على صور بعض المواطنين البسطاء المرهقين الذين دمر نظام مبارك صحتهم، لإيصال رسالة ذات مغزى إلى الجمهور الذي سيخرج باستنتاجات طبقية، بأن من يشاهدهم هم بلطجية، لأنهم لا يشبهون شباب "فيسبوك" ذوي الخدود المتوردة. كنت أتمنى أن يجلس أعضاء المجلس العسكري، لكي يتأملوا جيداً في صور وجوه قادة الموجة الثانية من الثورة، والتي تنقلها لهم الأجهزة الأمنية، أولاً بأول، كما أظن، ليدركوا أنهم يواجهون، الآن، نوعية جديدة من الثوار، ليس لهم منظرون، ولا نخب، ولا قعور مجالس، يواجهون الضحايا الحقيقيين، لستين عاماً من حكم العسكر، يواجهون أناساً، ليس لديهم ما يخسرونه، يواجهون أناساً لا يخافون الموت، لأنهم في الأصل مدفونون بالحيا، ومواجهة أمثال هؤلاء لن تكون باللقاءات المعسولة في القاعات المكيفة، ولا بقنابل الغاز والرصاص الحي، بل ستكون بطريق واحد، لا شريك له: التغيير الجذري الشامل والفوري.

كنت أنتظر من اللواءين، العصار وحجازي، أن يشتما مسؤولي التلفزيون المصري، لأنه كرر عرض ذلك الفيديو المخجل للبؤساء الأجانب الثلاثة الذين وقفوا مذعورين، وقد حملوا ما قيل إنه زجاجات مولوتوف، كنت أتوقع أن يقولا لهم: عيب إنتو كده بتهزأونا عندما تلوحون للملايين أن ثلاثة مراهقين، يمكن أن يقنعوا الآلاف بالثورة علينا. كنت أتوقع أن يوجهوا اعتذاراً جاداً لكل الأجانب المقيمين في مصر، أو الذين يفكرون في زيارتها عن هذه الحركة "النص كُم"، التي لا يكف جهابذة أمن الدولة عن اتباعها، ويتذكّروا أن ما حدث لهؤلاء البؤساء الذين اتضح أنهم طلبة في الجامعة الأميركية، نزلوا لكي يتفرجوا على ما ظنوه حدثاً تاريخياً، يمكن أن يحدث لأي مواطن مصري يتفرّج على أي مظاهرة في أي مدينة في العالم، لا أدري هل يحب أعضاء المجلس العسكري، وهم يسافرون كثيراً إلى العواصم الغربية، أن يتم القبض عليهم، إذا مرّوا مصادفةً بجوار مظاهرة، لتتم معاملتهم بمثل ما نعامل به الأجانب الذين إتخبطوا في نافوخهم، وقرّروا حضور مظاهراتنا. بالطبع، لا أعني بهذا الكلام منح حصانة لكل أجنبي، قد يوزه شيطانه، لكي يشارك في التخريب. بالعكس، علينا أن نقدمه إلى العدالة بصحبة دلائل قاطعة تثبت اشتراكه في التخريب، وبعد أن يحظى بتحقيق عادل بحضور محامين، ومن دون أن يتم انتهاك حقوقه القانونية، بتصويره بهذا الشكل الذي تعودنا أن نتعامل به مع مواطنينا الذين لا يعرفون حقوقهم، ولا يحرصون عليها، لا أدري هل يدرك عضوا المجلس العسكري أن موافقتهما على عرض تلك الصور الفضيحة في أثناء حديثهما يمكن أن يشكل ضربة قاصمة إضافية للسياحة، وخصوصاً أن الصور التي صورها أذكياء الداخلية تناقلتها محطات التلفزيون في أنحاء العالم.

تبقى الحسنة الوحيدة في لقاء اللواءين، العصار وحجازي، من وجهة نظري، أنه أكد لي إدراكاً يتعاظم يوماً بعد يوم، هو أن ما يحدث الآن في شوارع مصر يعكس صراعاً خفياً شرساً داخل هرم السلطة، لأنه طبقاً لقانون وحدة الخطأ المعروف فيزيائياً، لا يمكن أن ينتج كل هذا الارتباك والتشوش والتخبط عن رؤية موحدة، حتى لو كانت رؤية خاطئة، ولو قرأت كتب التاريخ ستجد أن صراعاً مثل هذا في ظروف مثل هذه ينتج دائماً عن حلم شخصٍ ما في أروقة السلطة بأن يكون طاغية جديداً، يكتسب شرعيته بإنهاء الفوضى العارمة التي تحدث عقب الثورات، وهو حلم أعتقد أنه سيتبدد لو كان لدى ذلك الطاغية المرتقب أي قناة تلفزيونية، تبث صوراً مباشرة لما يحدث في ميادين التحرير.

يا خفي الألطاف نجّنا مما نخاف".

(نشرت هذه السطور في صحيفة التحرير بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.