صفحات متجددة من كشكول قديم

05 سبتمبر 2019
+ الخط -
لم أكن أريد أن أدخل في جدل عقيم مع صديقي ابن الثانية والعشرين ربيعاً، ليس لأنني لم أعد أستطيع صبراً على الجدال، بل لأنني لم أعد أتسامح مع تضييع الوقت، خاصة أنه لم يفهمني حين قطعت نقاشنا وسألته عن عمره، فاعتبر سؤالي المفاجئ تقليلاً من شأنه، مع أنني كنت فقط أريد أن أحكي له كيف كنت أرى الأزمات العاطفية والدنيا والعالم حين كنت في سنه.

ابتسم راضياً حين قلت له إنني ظننته في الخامسة والعشرين من عمره، وفترت ابتسامته حين قلت إنه حين يبلغ الخامسة والثلاثين، لن يتسامح مع أي سنة تضاف إلى عمره بالخطأ، وأنه سيحسن إلى نفسه لو أدرك أهمية الوقت قبل أن يصل إلى الثلاثين، وحين لمست تقطيبة ضيق على وجهه، قلت له إن عليه أن يطمئن لأنني لن أضيع وقته في نصائح، فأنا لست من المغرمين بتلقي النصائح ولا إسدائها، مع أنه الذي أصر على أن يسألني عن رأيي في كتاباته الطافحة بالأسى والتشاؤم عقب أزمته العاطفية الأخيرة.

حين قال لي إن الأيام التي يعيش فيها سنين "عشرينياته" هي بالتأكيد أكثر سواداً من الأيام التي عشت فيها سنين "عشرينياتي"، لم أخالفه الرأي ولم أتفق معه أيضاً، لكني قلت له إن أيامي وأيامه ربما لن تكون أكثر سواداً من أيام "عشرينيات" عاش فيها سابقون لنا في أزمنة الحروب العالمية الكبرى والأوبئة والمجاعات، فلم يتسامح مع محاولتي إقناعه أن ما يعيشه ربما كان كارثة، لكنه بالتأكيد ليس "الكارثة"، وأنه ربما صادف في المستقبل حباً حقيقياً، سيجعله يشعر بالخجل لأنه تصور أن نهاية حبه تلك كانت نهاية العالم.


ولأن زعله يعز عليّ، قررت أن أرسل إلى صديقي "الأشبب مني" بعضاً مما كنت أكتبه وأنا في مثل سنه، كنت وقتها سكرتيراً لتحرير صحيفة (الدستور) أكثر الصحف انتشاراً في مصر، لكن مستقبلي لم يكن له ملامح، لأن صحيفتي كانت مهددة بالغلق في أي لحظة، وحتى ما كنت أحققه من نجاح مهني، لم أكن سعيداً به كما كان ينبغي، لأنني كنت أعاني من الفقر والخواء العاطفي وانعدام الأمان.

قلت لنفسي: لعله حين يقرأ ما كتبته، يدرك أنني لم أكن "أتفذلك" حين استشهدت في حديثي معه بقول أبي الطيب المتنبي:
صَحِبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من شأنهِ ما عَنانا

وكم كنت أتمنى أن يتركني لأكمل تلك الأبيات التي أحبها كثيراً، وأجد راحة في ترديدها وتأملها، خصوصاً ذلك البيت الذي يقول فيه المتنبي:
كلّما أنبتَ الزمانُ قناةً
ركّب المرءُ في القناةِ سِنانا

لكنني تذكرت كيف كانت تلك الأبيات تثير سخريتي حين سمعتها لأول مرة، ولم أستغرب حين قرر صديقي المتحمس أن يجرني إلى نقاش كان مفضلاً لي في الماضي عن المتنبي وحكمته المزيفة التي لم يكن يعمل بها، لذلك فضلت أن "أقطم" النقاش، حتى لو اتهمني بالتعالي عليه، وعدت إلى أوراق "عشريناتي" لأقرأ فيها كيف كنت أرى زماني وقتها، واخترت منها له الصفحات التالية، والتي أبدأها بأول مقال كتبته حين أتيح في مطلع عام 1997 أن يكون لي عمود رأي في صفحة بريد القراء التي كنت أحررها، وأنهي تلك الصفحات بمقال نشرته بتاريخ 26 نوفمبر 1997، بعد شهرين من دخولي سن الثالثة والعشرين، وها أنا أتركها بين يديك ويديه دون رتوش:

.....

على قد ما حبّينا
كلما اختلينا بأنفسنا قليلاً وأرحنا روحنا من الدوران فى ساقية الحياة ولو لأيام هى فى عمرنا مثل لمح البصر، نكتشف إننا متعبون  وكلما جاءت علينا أيام نتفقد فيها نفوسنا وأرواحنا، اكتشفنا أنها نفوس خربة وأرواح معذبة، ليس بإرادتها بل بفعل فاعل هو الزمان الذى نعيشه.

على قد ما حبِّينا أهلنا وأحبابنا وحياتنا، على قد ما عذّبنا هؤلاء جميعا، وعلى قد ما عذّبنا هؤلاء جميعا، وعلى قد ما عذبونا، على قد دهشتنا من أن حبنا لهم لايزال كما هو.

والآن وعندما نجلس فى أيام مفترجة كالتى نمر بها، وهى مفترجة عند الله فقط، نجد أننا نمد أيدينا لندعو لهؤلاء الذين عذّبونا بحبهم، راجين الله أن تكون ساعة إجابة، فندعو لبلدنا أن يجعلها الله سخاءً رخاءً لأهلها لا لمن يكرهونها، وندعو لأهلنا أن يعينهم الله على مرارة الحياة، وندعو لأحبابنا أن يزيل الله عنهم غشاوة اليأس ويفك عنهم أسرهم وأغلال الحزن التى عليهم ـ بالمناسبة أتحدث عن أحباب لا محبوبات ـ أما حياتنا فندعو أن نحتملها فقط، فلسنا طماعين، ثم ندعو لأنفسنا أن نقدر يوماً ما على ترميمها.

اللهم آمين.

.....

عياط
لا ملجأ منك إلا إليك.. هذه حقيقة عليك أن تأخذ بالك منها جيداً.
لذلك لا تستهن أبداً بروحك وبالليالى التى تحتضن نفسك وتجلسان فى غرفة مظلمة أنت ونفسك تبكيان معا وتنعيان حظكما، وتشكيان إلى الله ضعف قوتكما وقلة حيلتكما وهوانكما على الناس. ستقول لي: "ولماذا أجلس مع نفسي..هل العملية ناقصة نكد.. لماذا لا أهرب منها"، ويبدو أنك "واخد قلم كبير" فى نفسك، وتظن نفسك "فِتِكاً" تستطيع الهروب من نفسك وتستطيع أن تغلبها كل ليلة بالدخول إلى مرقدك منهكا خائر القوى.

لا يا حلو إلى متى ستهرب؟ مسيرك ستقع فى شر أعمالك وستواجه نفسك عارية "ملط".. وأنت وشطارتك.. إما أن تنهى المواجهة ضاحكاً أو باكياً أو نادماً أو راضياً.. أو ميتاً.. المهم أنك لابد أن تنهيها.. ياقاتل يامقتول.. ليس أمامك بديل آخر.


من الذى ستجده مستعدا لسماع شكواك غير نفسك، وغير ربك طبعاً قبل وبعد كل شيئ. يقول لك عبد الرحيم منصور مذكراً ومحذراً: "أشكي لمين.. وأحكي لمين.. دنيا بتلعب بينا.. نقضي ساعات فرحانين.. وساعات بتبكينا.. دنيا بتلعب بينا ليه.. إيه راح ناخد من ده إيه"، ولأنك فعلاً ستتلفت يميناً وشمالاً لتسأل نفسك:"أشكي لمين"، ستجد أنك لن تجد أحداً تشكو له سوى نفسك.. على الأقل هي لن تطلب منك مقابلا ولن تفضح سترك ولن تنشر غسيلك "اللى مش ولا بُدّ".

نفسك ليست صديقاً يطعنك فى صدرك - رحم الله زمان الطعن فى الظهر- وليست محبوبة تباع وتُشترى، وليست أسرة ملهية عنك بهموم الدنيا. نفسك "جدعة" ومنك وعليك. لذلك خلي بالك من نفسك.

لا تقل لي أنك لن تهتم بكلامى كله لأنك لا تشكو من شيئ. أنت إذاً لا تقرأ الجرائد ولاتشاهد التليفزيون ولاتسمع أحاديث الناس ولا تعيش معنا. تعيش فى ولاية فرجينيا أو فى الريف الأنجليزى أو فى مقاطعة "فاسو" بجمهورية بوركينا فاسو.

صدقنى ما يحدث كثير، ولابد أن تشكو منه لأحد، وليس عيباً أبداً أن تبكى بسببه. بالعكس أزمة بلادنا أن هناك من يبكى دائماً وأبداً، وأن هناك من لا يبكى أبداً. أنا شخصيا كنت ألوم والدتى لأنها تبكى فى أوقات حياتها الرسمية وغير الرسمية. الآن وبعد أن فهمت الحياة أكثر، أندم كثيراً على اللحظات التى لم أشاركها فيها البكاء.

.....

طعم الحياة
هل جربت أن تسأل نفسك يوما عن طعم الحياة التى تعيشها؟
هل جربت أن تجيل النظر فيما حولك وتتدبر حياتك جيداً ثم تحاول أن تجد طعماً لذلك فى حلقك.

ربما تكون من الذين رضي الله عنهم وأرضاهم فتجد طعما حلوا لحياتك. أقول ربما، وربما هذه من مرادفاتها "ابقى قابلني". وربما تجد لحياتك طعماً مراً، وساعتها صدقنى لن تكون لديك مشكلة كبيرة، ولا تتعجب إنها إرادة الله فالمشكلة الحقيقية هى ألا تجد طعماً أبداً لحياتك. وغالباً لن تدرك ذلك إلا بعد تفكير طويل، تجد بعده أن حياتك ماسخة الطعم "زي أكل المسلوق بتاع العيانين" عافاك الله، وأن ما تبات فيه تصبح فيه، وأنك تدور فى ساقية أو فى حلقة مفرغة. وإياك أن تظن عندها أن مشكلة افتقاد طعم الحياة هي مشكلة فردية، الحقيقة أنها تصبح أحيانا مشكلة شعوب، فالشعوب المنقادة الضعيفة المتخلفة التى تفتقد حياتها إلى التغيير، هى شعوب فقدت القدرة على "استطعام" الحياة، لذلك فهى ترفع شعار "كله محصّل بعضه"، أما الشعوب القوية المتقدمة التى تقود نفسها بنفسها، فحياتها تشهد تغييراً مستمراً، لأنها تذوق طعم حياتها أولاً بأول، وتغيره عندما لايعجبها.

قد يكون كلامى هذا لا طعم له، كآلاف الأطنان من الكلام الذى نقرأه ونسمعه كل يوم، وعندها لاشك أننى قد فشلت فى استخدام مكسبات الطعم. وأنا أنصحك نصيحة أخوية أن تحاول أن تجد لنفسك ما يناسبك منها. لكن لا تستسلم لحياة بلا طعم. ولاتسلم رقبتك لحبل الساقية. قد تجد الطعم حراقاً أحياناً ومُرّاً أحياناً، لكنك قد تجده حلواً أحياناً، وتذكر دائماً أنك أنت وحدك الذى يصنع مكسبات الطعم لن تبيعها لك الحكومة ولا الأحزاب ولا الصحافة ولا رجال الأعمال.

رزقنا الله وإياكم بحياة طِعمة.. مع الاعتذار للحلوة طِعمة.

.....

الجِنان!
ولأنكِ كنتِ تقفين هناك باردة كلوح ثلج، تنظرين إليه نظرة ميتة جعلتك تبدين له وقتها شديدة القبح، فقد تَعِبَ كثيراً وهو يتذكر أنكِ كنتِ أجمل من زبيدة ثروت، وأدفأ من قلب أم، وأن نظراتكِ "قتلننا ثم لم يحيين قتلانا"، وعندما لم يفهم ما الذي حدث ويحدث، قرر أن يرفع شعار نظرية المؤامرة وأن يعيش حياته وهو على اعتقاد جازم أنه مستهدف ومرصود و"محطوط في دماغ الدنيا".

لا تظلمه ولا تتصور أنه يبالغ. لم يكن ما يشعر به ترفاً أو رفاهية أو "كماليات". ألم يترك لكم واقعكم المظلم الكئيب، ليهرب إلى الداخل ويتركها لكم هنيئة مريئة تشبعون بها؟ فلماذا استكثرتم عليه حتى فرحة قلبه، وطاردتموه إلى داخله، وكسرتم القنديل الذي كان "حيلته في الدنيا". طيب حتى الداخل لم يعد منه "رجا"

ما الذي سيفعله إذن؟ سيأخذ رقماً ويقف في طابور "العبط العاطفي" الذي افتتحه مجنون ليلى وسبقه ـ أو تبعه ـ مجانين لبنى وعزة وعبلة وعفراء، وبتعة وميرفت وسوسو ونادية ولولو، فالاختيارات أمامه محدودة، إما أن يهتف مع قيس "ابن الملوّح على عين أهله": وكنت وعدتني يا قلب أنّي.. إذا ما تبت عن ليلى تتوب.. وها أنا ذا تائبٌ عن حب ليلى.. فما بالك كلما ذكرت تذوبُ".

وإما أن يولول مع حليم ـ الذي مات مريضاً وحيداً مكسور القلب ـ "في يوم من الأيام كان لي قلب"، وكلما شكا لأحد قال له: "يا بني هذه سنة الحياة، انظر إلى ملايين الشباب في مصر من حولك وانظر إلى ملايين الذين سبقوك"، فيقول مكسوراً: "اللهم نَفسي نَفسي"، لكن ليس كل دعوة تُستجاب بالضرورة وإلا لتحررت فلسطين منذ زمن.

يحاول أحياناً الفلسفة والحديث عن مأساة القلوب التي يقتل المجتمع فيها الحب فتنشر هي فيه الحقد والموت، لكن هل نفعت الفلسفة سقراط وهو يموت منتحراً؟ أو هل نفعت العقاد وهو يموت وحيداً خائفاً ـ دون شك ـ وهو يستمطر اللعنات على سارة أو مي ـ ما تفرقش ـ وعندما يتذكر كل ذلك يكتفي بأن يقول حالماً: "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا"، لكن الحقيقة أن الشتيتين يجتمعان في نهايات أفلام عز الدين ذو الفقار وروايات عبير.

ولأنه عاجز وعبيط وحالم برحمة الله، فهو يكتفي بأن يردد مع العباس بن الأحنف ـ مات هو راخر متنيّل على عينه ـ قائلاً: "وأنتِ من الدنيا نصيب فإن أمُت.. فليتكِ من حور الجنانِ نصيبي"، والمؤكد أن الذي سيكون من نصيبه هو "الجنان" الرسمي والعباسية، مش هو اللي طلب يا جدعان؟.

.....

يا صديقي: كان هذا ما كتبته وأنا في مثل عمرك، واليوم وقد بلغت الخامسة والأربعين من عمري، أنظر إليه متصالحاً مع براءته التي لا تخلو من السذاجة، ومتعجباً من نفسي لأنني كنت أحسب أنني وقتها شهدت نهاية العالم، مع أنني لم أعش نشوة الحب الأجمل والأحلى والأصدق إلا بعد ذلك بسنين طويلة، ومتأسفاً لأنني كنت أتجاهل من سبقوني إلى خوض تجارب الحياة، حين يقولون لي إن ما أشكو منه سيمضي، إذا أردته أن يمضي، وأنني لن أنساه، لكن حياتي لن تتوقف عنده، إذا أردت لها ألا تتوقف عنده، ولأنني كنت أسخر منهم حين يزعمون أن "أجمل أيامي هي تلك التي لم أعشها بعد"، ولا أظن أن رد فعلك سيختلف عن رد فعلي، إلا حين تدفعك التجارب يوماً ما ـ سيكون عليك تبكير موعده ـ إلى الاستشهاد بقصيدة أبي الطيب المتنبي، التي ستعني لك الكثير في المستقبل، خصوصاً إذا قررت أن تتمثل في حياتك ذلك المعنى الجميل والمرير:
وإذا لم يكن من الموت بُدٌ
فمن العجز أن تكون جبانا.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.