30 ديسمبر 2021
صفحات "هزلمأساوية" من تاريخ حكم العسكر (الأخيرة)
(ـ اختفاء شرائط تسجيل يعترف فيها عبد الناصر باكياً بمسئوليته عن القرارات التي جلبت الهزيمة ـ عامر يوجه شتائم مقذعة إلى ناصر في ورقة شاهدتها بنفسي ـ عامر يطمئن إلى أن ناصر لن يقتله لأن والده جعلهما يقسمان على المصحف بألا يغدر أحدهما بالآخر ـ عامر يعد خطة لمعركة يواجه فيها قرار ناصر بإعتقاله ـ ويتبع مع ناصر تكتيكا مستمدا من جلسات لعب البوكر التي جمعتهما قبل الثورة)
بمناسبة حديثه عن جمال سالم وزيارته الأخيرة للمشير عبد الحكيم عامر بعد هزيمة يونيو، يقطع عبد الصمد محمد الصمد تسلسل شهادته ليروي أن أحد أشقاء المشير عامر بعد خروجه من المعتقل الذي قضى فيه فترة بسيطة، ذهب ليزور جمال سالم في مرضه الأخير في مستشفى المعادي العسكري ـ كان ذلك في عام 1968 ـ فأخذ جمال سالم يبكي على رحيل عبد الحكيم عامر، قائلا لزائره "خلاص آديني حاقابله"، وعندما جامله زائره بالقول إن صحته جيدة، رد قائلاً إنه تأكد من الموت قريبا، عندما زاره عبد الناصر في المنام، مضيفا بحرقة بالغة: "لإنه مستحيل حيزورني، إلا لو واثق إني مش حاعيش، ويمكن يمشي في جنازتي، لكن أنا لا كنت عايزه يزورني ولا يمشي ورايا".
بعد هذا الإستطراد الذي يغري القارئ بفتح ملفات الشقيقين جمال وصلاح سالم، بكل ما فيها من غرابة ومأساوية ومن مهازل أيضاً، يخبرنا عبد الصمد محمد عبد الصمد أن المشير عامر قرر في ظل الأجواء المتوترة التي كانت تحيط به، أن يخوض معركته مع عبد الناصر، "حتى آخرها، وحتى لو كان موقفه ضعيفاً"، قائلا إن عامر كان معتمداً بالأساس على سلاح حرب الأعصاب، الذي يقول إن عبد الحكيم كان يتبعه مع عبد الناصر "منذ أن عاشا سويا في سكن واحد قبل الثورة، خاصة أن عامر كان لديه نوع من التفوق على ناصر، بسبب ندرة أصدقاء ناصر أو انعدامهم، بعكس عامر الذي كان له أصدقاء كثيرون من بينهم شلة كان يلعب البوكر معها، وكان جمال يتذمر من عادة اللعب هذه ويحاول أن يثني عامر عنها، ثم لم يجد بدا من أن يتعلم اللعبة ليلعب معهم"، وأثناء جلسات اللعب تلك، وبنص تعبير عبد الصمد "كان عبد الحكيم يزهو دائما بقوة أعصابه، ويقوم بلعب أدوار بلوفّ للتهويش، ففي أحد الأدوار مثلا يقول أنه سيلعب بخمسين قرش، فيهرب جمال على إعتبار أن ورق عبد الحكيم أقوى منه، فيكشف عبد الحكيم أوراقه وهو ليس مطلوبا منه ذلك ليفاجأ جمال بأن أوراق عامر كانت غير رابحة وسط ضحكات عامر".
واستمراراً في سرد هذا المدخل الغريب لتحليل العلاقة بين ناصر وعامر، يرى عبد الصمد أن تلك الطريقة في المقامرة، استمرت طيلة علاقة الإثنين أثناء سنوات الحكم، "فرغم أن أوراق جمال كانت دائماً هي الأقوى ومكشوفة فقد كانت له الرئاسة، إلا أنه في جميع الأزمات كان عبد الحكيم بسبب قوة أعصابه هو الذي ينتصر، حتى جاءت الأزمة الاخيرة التي يصح فيها قول المقامرين: الحساب على السلم، أي أنها كانت اللعبة الأخيرة والحاسمة". لذلك كما يروي عبد الصمد وضع المشير خطة لمعركة حربية في مواجهة محاولة عبد الناصر لاعتقاله، معتمداً على ما عنده من رجال وأسلحة متوسطة ومدافع صغيرة وقنابل يدوية، ومراهناً على تدخل الجيش إلي جواره، وكان عامر يعتقد أنه حتى لو لم ينتصر، فالمهم أن يكون قد قاوم عبد الناصر لأنه لو لم يفعل فلن يقاومه أحد إلى يوم القيامة، حسب نص تعبير المشير الذي كان يكرره كثيرا للمحيطين به.
كان المشير عامر يعلم أنه يضغط على أعصاب صديقه بتجمهر رجال عامر داخل وخارج بيته، خاصة وأن عبد الناصر كان على وشك الذهاب إلى مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، الذي كان سينعقد يوم 27 أغسطس 1967، ولم يكن عبد الناصر يستطيع الاعتذار عن حضوره، كما أنه أيضا لم يكن يستطيع الذهاب إلى المؤتمر، تاركا عبد الحكيم في مصر قريبا من كرسي الرئاسة، ولذلك راهن المشير رجاله في إحدى جلساته، على أن "جمال سيضعف وسيطلب مقابلته قبل السفر"، وقال عامر إن ذلك لو حدث، فإنه سيذهب من تلقاء نفسه إلى عبد الناصر ويقول له: "سافر وأنا موافق على كل شروطك وأطمئنك"، قائلا إنه سيعتبر نفسه وقتها قد انتصر في معركة الكرامة، التي كانت هدفه الوحيد طبقا لما يرويه عبد الصمد، الذي يؤكد نقلا عن عامر، أن جمال أيضا كان سيسافر وقتها، لأنه كان سيتأكد أن عامر لن يغدر به طالما أعطاه كلمة، وتفسير تلك الثقة في رأي عبد الصمد الذي ينقله عن عامر، تفسير عجيب يليق بالإثنين وبطبيعة علاقتهما، وهو أن "والد عبد الحكيم كان قد جمع الإثنين منذ زمن بعيد، وجعلهما يقسمان على المصحف أمامه أنه لن يخون أحدهما الآخر، وأنهما سيفترقان بمعروف أو يعيشا بمعروف".
وهنا يقول عبد الصمد بأسى إن عامر لم يتوقع خروج جمال على ذلك القسم المقدس، لذلك لم ينتبه إلى خدعته له، حين وافق على أن يتصالحا بزعم أنهما يجب أن يسافرا سويا إلى الخرطوم، ولذلك وافق عبد الحكيم على طلب عبد الناصر بأن يأتي إليه عبد الحكيم في بيته مساء الجمعة 26 أغسطس 1967، ليتناول معه العشاء، وليتباحثا في أعمال مؤتمر الخرطوم قبل سفرهما سوياً، بينما كان ناصر قد أعد "خطة العشاء الأخير" للقبض على عامر فور دخوله بيت عبد الناصر، ليتم في نفس الوقت اعتقال كل من في بيت عامر وحوله، لأن عبد الناصر كان يعلم أن أحداً من رجال المشير، لن يقاوم القوات القادمة إلى البيت، إلا إذا تلقى أمرا مباشرا من عامر، وأنه كان يعلم أيضا أن عامر لن يرفض طلب العشاء، لأنه كان قد زار عبد الناصر في بيته أكثر من مرة، منذ اندلاع الأزمة بينهما، ولم يحدث له شئ، ولذلك فقد كان رفضه طلب العشاء سيظهر ذعره وشكه، وهو أمر لا يمكن أن يتسق مع شخص مشغول طول الوقت بكرامته ومظهره أمام رفيق عمره.
السر الخطير!
طيب، لعلك الآن مستعد لمعرفة السر الخطير الذي وعد عبد الصمد بإذاعته في بداية كتابة لولا خوفه من أن يقوم عمال المطبعة بتسريبه، ولعلك أيضا تخشى أن يخيب عبد الصمد محمد عبد الصمد أملك، حين يتضح لك أن سره لم يكن يستحق كل ذلك الكتمان، لكن الحقيقة أن عبد الصمد، حتى لو لم يكن محقا بإخفاء السر عن عمال المطبعة، لأنهم كانوا سيعرفونه علي أي حال، فالحقيقة أن ما كتبه في نهاية كتابه كان سراً شديد الخطورة بالفعل، وتستحق تفاصيله التدقيق والتحقيق، حين تحكم مصر سلطة مدنية غير مشغولة بإخفاء جرائم الماضي والطرمخة عليها.
ما يكشفه عبد الصمد في نهاية كتابه، أن المشير عامر كتب مذكراته بشكل تفصيلي، راوياً فيها شهادته الكاملة على هزيمة 1967، معتبراً أن تلك المذكرات كانت أهم أسباب صدور قرار التخلص من المشير، وموجهاً أصابع الاتهام في اختفاء تلك المذكرات إلى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي يقول عبد الصمد إنه كان يزور المشير بصفة شبه يومية في عز أزمته مع عبد الناصر، وكان يقول لعائلة المشير: "إذا كان المشير مش حيرجع أنا حابطّل الكتابة، ومش حاكتب حرف واحد"، وذات يوم من أيام شهر أغسطس، وعندما جاء هيكل لزيارة المشير كعادته، وجده منهمكاً في الكتابة، ففاجأه المشير بقوله: "جيت في وقتك ياهيكل، إنت طبعا فاكر كلامك بعدم اطمئنانك لجمال ووعدي لك بالوقوف جانبك، النهارده جه دورك، أنا انتهيت من كتابة مذكراتي عن الحرب، وحكيت السر الخطير اللي بيننا أنا وجمال، لمصلحة مصر والتاريخ، وإذا حصل لي حاجة عايزك توعدني بعد ما تقرأ اللي كتبته وتحفظه، وإذا جه وقت النشر تنشره"، وطلب المشير من هيكل أن يأخذ المذكرات ليقرأها ثم يعيدها، أو حتى يصورها في بيته، ويقول عبد الصمد أن المشير لم يفعل ذلك سذاجة منه، فقد كان حذراً من هيكل طول الوقت، هو وعائلته أيضا، لكنه كان يريد من هيكل أن يبلغ عبد الناصر بتلك المذكرات، لتكون إنذاراً أخيراً لعبد الناصر بأن يستجيب لمطالبه، خاصة أن تلك الأسرار التي حكاها في مذكراته، هي في رأي المشير سبب عدم موافقة عبد الناصر على سفره إلى إيطاليا هو وشمس بدران.
ولكي لا يترك عبد الصمد قارئ مذكراته متحسرا على مصير المذكرات التي ضاعت للأبد بعد أن أخذها هيكل طبقا لروايته، يكشف أنه قرأ تلك المذكرات هو وعدد من رفاق المشير المقربين، ويبدأ في نقل ما جاء فيها من أسباب سياسية وعسكرية للهزيمة من وجهة نظر عامر، الذي يرى أن سبب الهزيمة السياسي الأهم، هو رفض عبد الناصر لأن تقوم مصر بمبادئة إسرائيل بالضربة الأولى، ورفضه لاقتراح المشير بالقيام بعمليات إستفزاز عسكري لإسرائيل، والتي بدأ المشير في تنفيذ بعضها رغم رفض عبد الناصر، لولا أن إسرائيل تنبهت واستنجدت بالرئيس الأمريكي، الذي حذر مصر من البدء بالضرب وتم إبلاغ التحذير للروس، الذين يعتبر المشير أن موقفهم كان في "غاية الغدر والخسة"، ليستدعي عبد الناصر المشير عقب ذلك، ويحذره من التهور، وهنا يستخدم المشير لغة البوكر المفضلة لديه، فيصف ما حدث بأنه كان "كوه" أو "ملعوب بلغة البوكر قامت به أمريكا وروسيا وشربه جمال قابلاً أن يرتمي في أحضان الغدر والخيانة الروسيين".
أما عن الأسباب العسكرية للهزيمة، فيقول المشير في مذكراته إن أهمها كان تدخل جمال في كل صغيرة وكبيرة، وقيامه بفرض رأيه على جميع القادة العسكريين، بحجة أن المعركة العسكرية تخضع للمعركة السياسية، وأنه رفض ما قاله له الضباط بوجوب البدء بالضربة الأولى المصرية، لكي لا يتكرر ما حدث في حرب السويس، فما كان من عبد الناصر إلا أن عنّفهم وهددهم بالعقوبات، فضلا عن رفض عبد الناصر خطة دفاعية وضعها المشير تقضي بإخلاء قطاع غزة، للتمركز في مواقع يمكن بعد بدء الهجوم الإسرائيلي، أن يقوم الجيش المصري انطلاقاً منها، بالهجوم على النقب، لتدور المعركة في أرض إسرائيل، فلا تفيدها طائراتها حتي إذا نجحت الضربة الجوية الأولى لها، وحسب ما يروي عبد الصمد نقلا عن ما قرأه في مذكرات عبد الحكيم عامر، فإن عبد الناصر قال عند رفضه لهذه الخطة "إزاي أنسحب من غزة، والبرستيج بتاعنا، وأقول إيه للعرب؟"، مما جعل عبد الحكيم يتهكم على حكاية برستيج عبد الناصر بعد الهزيمة، متسائلا: "طب هيقول إيه للعرب في مؤتمر الخرطوم"، مضيفا أن عبد الناصر طلب وبإلحاح شديد، تقوية القوات المصرية الموجودة في غزة، لتكون هذه التقوية سبباً في إضعاف الخطوط الدفاعية في سيناء، قائلاً إن طلب الإنسحاب السريع بعد خسائر ضرب الطيران، كان عبد الناصر هو الذي أصدره دون تشاور بل قال: "ده أمر يا عبد الحكيم"، ويروي المشير في مذكراته أنه عندما أمر بسحب الفرقة الرابعة ـ أفضل فرق الجيش حسب تعبيره ـ إلى غرب القناة وهي لا تزال سليمة، غضب عبد الناصر وأمر بإعادتها إلى موقعها، فضربها الطيران الإسرائيلي وحققت خسائر ضخمة في الأرواح.
أين ذهبت التسجيلات؟
لم يكن هذا فقط أخطر ما يرويه عبد الصمد نقلا عن المشير عامر، فهو لا يتحدث فقط عن مذكرات مكتوبة، بل يتحدث عن شرائط تسجيل عليها وقائع اجتماع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، يعترف فيه ناصر باكياً بمسئوليته عن الهزيمة، زاعماً أن عبد الناصر قال له بالنص: "سامحني ياعبد الحكيم أنا غلطت لما ما طاوعتكوش إنت وصدقي ـ يقصد قائد سلاح الطيران صدقي محمود الذي تمت محاكمته بعد ذلك ـ والطيارين وكل اللي كانوا عايزين نضرب الأول"، قبل أن يضيف ناصر أنه سيتحمل المسئولية مع عامر، "وأنهم ماداموا يستقيلون جميعا فلا ضرورة لتوزيع المسئولية علنا".
يزعم عبد الصمد نقلا عن المشير، أن ذلك الإجتماع الخطير، تم تسجيله على شرائط موجودة من أربع نسخ، أحدها كان عند جمال عبد الناصر شخصيا، والثاني عند سكرتيره سامي شرف، والثالث في دار الإذاعة التي كانت ترسل فريقا فنيا لتسجيل وقائع الإجتماعات وحفظها في مكان سري بمعرفة الأجهزة السيادية، أما النسخة الرابعة التي احتفظ بها عامر فيرجح عبد الصمد أن يكون قد تم العثور عليها عند مداهمة بيت المشير وتفتيشه، زاعماً أن عبد الناصر قال لسامي شرف: "إلحق، لِمّ الشرايط لاحسن دي تودينا في داهية"، لأنه كان يعلم خطورة تلك التسجيلات، لكن عبد الصمد لا يقدم تفسيراً مقنعاً لما يمكن أن يجعل عبد الناصر يقبل بتسجيل ذلك الإجتماع الخطير، لكن سياق شهادته يوحي أن ذلك الإجتماع، تم في ظروف كان عبد الناصر فيها في غاية الإرتباك المعنوي والعاطفي، مما جعله يتساهل في الاعتراف بمسئوليته عن الهزيمة.
يروي عبد الصمد أيضاً أن المشير عامر، ولكي يحتاط ويطمئن إلى وصول شهادته للناس بأي شكل، قام بكتابة نسخة أخرى من مذكراته باللغة الإنجليزية، قائلا إنه يفعل ذلك "بهدف الدفاع عن سمعة جيش مصر وقياداته لكي لا تلتصق بهم تهمة الإهمال من أجل تبرئة عبد الناصر"، راوياً أن تلك النسخة الإنجليزية من المذكرات، قام بتهريبها إلى خارج مصر، أحد شباب أسرة المشير ـ وصفه بأنه "فتى من أسرة المشير" ـ ليتم نشرها في بعض الصحف العربية الصادرة في بيروت، وعدد من الصحف العالمية بلغات مختلفة، ولأن هيكل شكك في نسبة تلك المذكرات للمشير، بسبب ركاكة لغتها العربية، يرد عليه عبد الصمد قائلاً إن سبب تلك الركاكة هو رداءة الترجمة عن الأصل الإنجليزي الذي كتب به المشير، الذي كان يجيد الإنجليزية، لكنه ربما استعان بمن يساعده بالكتابة بالإنجليزية، لكن على أية حال تبقى الثغرة الأبرز في رواية عبد الصمد لوقائع تلك الأيام الأخيرة من حياة المشير، هو التناقض بين ما يحكيه عن حذر عامر من غدر ناصر به، لدرجة تجعله يحرص على إيصال روايته للعالم، لكنه في نفس الوقت يذهب إلى بيت عبد الناصر مطمئنا إلى أنه لن يقوم بقتله وإيذائه، وهو تناقض واضح، يحاول عبد الصمد دفعه، بالتأكيد في أكثر من موضع، على أن عامر ظل حتى آخر لحظة يتوقع الاعتقال، لكنه لم يتوقع أبدا القتل.
من المهم أن أقول هنا إنني أرجح الآن وجود مذكرات كتبها المشير عامر بالفعل قبل مقتله، كما يروي عبد الصمد في مذكراته، وسبب ذلك الترجيح، هو أنني شاهدت بنفسي في عام 2011 ورقة كتبها عبد الحكيم عامر بخط يده الذي يمكن التعرف عليه بسهولة في عدد من الوثائق المنشورة في المراجع التي أرخت لفترة الهزيمة وما قبلها، وقد قام المشير عامر في تلك الورقة التي قرأتها، بتوجيه شتائم لاذعة إلى عبد الناصر، لست في حل من ذكرها نصا، لأن ذلك يمكن أن يتسبب في مشكلة للناشر، الذي حصل على مجموعة من الأوراق التي تركها عبد الحكيم عامر لأسرته قبل رحيله، وقد حاول ذلك الناشر بالمناسبة إصدار تلك الأوراق في كتاب بالإتفاق مع أسرة المشير، لكنه تعرض لمضايقات من جهات عليا، كما قال لي حين التقيته على هامش استضافتي له خلال برنامج (عصير الكتب) على قناة دريم، ولم يحن بعد وقت رواية كل ما قاله لي يومها، لأن ذلك من حقه هو، إلا إذا تنازل عن ذلك الحق وطالت فترة صمته، واستمر اخفاؤه لما لديه من أوراق، صارت ملكا للأجيال القادمة، ولم تعد ملكا لأحد بعينه، أيا كانت قرابته بالمشير أو عبد الناصر، أو أيا كان إدعاؤه أنه يقوم بحماية الأمن القومي. بالطبع لست أجزم أن الورقة التي رأيتها، هي بالضرورة جزء من المذكرات التي يشير إليها عبد الصمد في نهاية كتابه، لأن الأسلوب المستخدم في تلك الورقة العجيبة، لم يكن أسلوب مذكرات، بل كان أسلوب شخص يعلم أنه مقدم على مواجهة دامية، فكان يحرق كل مراكبه، ويضرب تحت الحزام، مراهنا بالدخول في مناطق شخصية شائكة جدا، وهو أمر يستحق التحقيق والتدقيق فيه، للتأكد من نسبة تلك الورقة وغيرها إليه، عبر خبراء متخصصين، وهو أمر يفترض بالضرورة أن نعيش أولاً في دولة تحترم تاريخها، وتدرك أن تقدم شعبها في المستقبل، وخروجه من عثرات الحاضر، مرتبط بمعرفته حقائق ما جرى له في الماضي.
جنون حمزة البسيوني!
في ختام مذكراته، وبعد حديثه عن مذكرات المشير المختفية وتسجيلاته المفقودة، يروي عبد الصمد محمد عبد الصمد قصة دخوله السجن، حيث علم فيه متأخراً بمقتل المشير عامر، وللأسف لن يتسع المقام هنا لذكر تفاصيل قصته في السجن، رغم أنه يكتبها بحس ساخر ومرير، ولكن سأمرّ سريعاً على وقائع غريبة وردت في مواضع متفرقة من مذكراته، من بينها مثلا أنه يسند رواية إلى حسن خليل مدير المباحث العسكرية، يقول فيها أن حسن خليل وشمس بدران عرضا على عبد الناصر أن يقوم بتخفيف حكم الإعدام على سيد قطب، ليستبدله بالسجن المؤبد أو العفو مع تحديد الإقامة، ويكسب شعبيا ودوليا من وراء ذلك، لكن عبد الناصر رفض وأصر على إنفاذ حكم الإعدام، وأن ذلك ترافق مع رغبة قوية في التنكيل بسيد قطب، ومصادرة كل كتبه، لدرجة أن فرن تسخين المياه في سجن القلعة كما يروي عبد الصمد نقلاً عن حسن خليل الذي كان معه في السجن، كان يتم إيقاده بأجزاء كتاب (في ظلال القرآن)، الذي تمت مصادرة آلاف النسخ منه، وهي واقعة تحتاج إلى الكثير من التدقيق، ولا أظن أن عبد الصمد قد رواها رغبة منه في مغازلة التيار الديني، لأن الفترة التي نشر فيها مذكراته، كانت قد شهدت نهاية شهر العسل الذي قام لسنوات بين السادات والتيارات الدينية، التي استخدمها السادات لفترة في ضرب الناصريين واليساريين.
يروي عبد الصمد في هذا الجزء من مذكراته، أن جميع الذين تم اعتقالهم عقب الهزيمة من رجال عامر، تعرضوا لمعاملة سيئة جدا، باستثناء شمس بدران الذي كان يلقى معاملة فوق الممتازة، وكذلك مدير السجن الحربي السابق حمزة البسيوني الذي كان بعض حرس السجن يعدون له الجوزة بأنفسهم، حرصاً على أن يكون في أفضل مزاج، وعلى ذكر حمزة البسيوني أشهر جلادي فترة عبد الناصر، يروي عبد الصمد أنه لاحظ عادة غريبة عند حمزة، وهي أنه يداعب القطط الموجودة في السجن، ويحنو عليها ثم يلقيها فجأة بكل عنف على الأرض، وقال أن حمزة ظهرت عليه بوادر جنون، عندما سمع بمحاكمة نائب مدير المخابرت في قضية تعذيب، وانه كان خائفاً لكنه كان يتماسك لكي لا يتم رفع تقارير عنه، وأنه اعترف لرفاق السجن بقيامه بدفن أحياء في الصحراء، لكنه زعم أنهم كانوا جواسيس فقط، واعترف لهم بأنه استخدم المسدس لكي ينتزع إعترافات مصطفى أمين بالتخابر مع الأمريكان، وأن حمزة البسيوني كان يعتبر أن "قيام عبد الناصر بحبسه برغم تعذيبه لقادة الإخوان وإجبارهم على الهتاف بحياة عبد الناصر، هو تخليص لذنوبه تجاه الإخوان"، كما يروي عبد الصمد أيضاً أنه زامل في المعتقل بعض قادة الثورة اليمنية، مثل أحمد النعمان والفريق العمري، الذين جاؤوا إلى عبد الناصر ليشتكوا إليه من رئيسهم السلال الذي كان مدعوما منه، فقام عبد الناصر بإيداعهما سجن القلعة، ليتعرضا هناك لإهانات جعلتهما يترحمان علي أيام الأمام أحمد الذي أطاحت به الثورة اليمنية.
وبرغم أنه لم يكن إلى جوار المشير في أيامه الأخيرة، يجزم عبد الصمد محمد عبد الصمد في مذكراته، أن المشير عامر تعرض للقتل، مستدلاً على ذلك بأسباب كثيرة، منها أن كل الذين تحدثوا عن أن عامر لم ينتحر، تعرضوا للموت في ظروف مريبة، "ومن بينهم عميد طيار وثيق الصلة به، قيل أنه مات بإنهيار عصبي مع أن الطيارين من أقوى الناس أعصاباً"، يستشهد عبد الصمد أيضاً بأن شمس بدران المتهم الأول في قضية المشير، "كان يذهب للمحكمة متأنقا، وكأنه يذهب لحفل ساهر، وأنه كان يعامل جيدا في السجن، قبل أن يُطلق سراحه ويسافر دون قيد أو شرط، يتحدث أيضاً عما وصفه "بالموت الغامض للدكتور أنور المفتي" الذي أعد التقرير الطبي عن موت المشير، ويرى عبد الصمد أخيرا أن النية كانت مبيتة للتخلص من المشير، بدليل أنه في لحظة إعتقاله، كانت قوات البوليس تتحرك في كل مدن وقرى الجمهورية، لتعتقل أكثر من 200 مواطن من أنصاره وهو مايؤكد وجود نية مبيتة لدى عبد الناصر، للتخلص من صداع كان اسمه المشير عبد الحكيم عامر.
ما من شك، أن هذا الجزء الذي لم يعاصر فيه عبد الصمد الأحداث بنفسه، يظل أضعف أجزاء مذكراته، وأنه شطح في بعض أجزائه شطحات لا يمكن فصلها عما تعرض له من اضطهاد بسبب علاقته بالمشير، وما من شك أيضاً، أن مذكرات عبد الصمد محمد عبد الصمد، لا يمكن التعامل معها على أنها تنطق بالحقيقة القاطعة، فهي في النهاية شهادة شخصية تنبع من تحيز الرجل ومحبته لصديقه وبلدياته عبد الحكيم عامر، لكن لا يمكن إنكار أن المذكرات حفلت بالسمين، مثلما حفلت بالغث، وأنها احتوت وقائع تبعث على الدهشة، وأخرى على السخرية، وأنها في كل الأحوال تظل وثيقة سياسية مهمة تستحق التأمل والتحقيق، لأنها تسلط أضواء مهمة، على شخصية رجل خطير إسمه عبد الحكيم عامر، شاءت الظروف أن يلعب دوراً شديد الأهمية في تاريخ مصر الحديث، بسبب صداقته الوثيقة والدرامية مع جمال عبد الناصر، التي لم يدفع ثمنها الإثنان وحدهما، بل دفعت ثمنها الفادح البلاد بأسرها، ولا زالت تدفعه، بل وستظل تدفعه للأسف، طالما بقيت العقلية العسكرية العقيمة، مسيطرة على مقاليد البلاد ومصائر العباد.
بمناسبة حديثه عن جمال سالم وزيارته الأخيرة للمشير عبد الحكيم عامر بعد هزيمة يونيو، يقطع عبد الصمد محمد الصمد تسلسل شهادته ليروي أن أحد أشقاء المشير عامر بعد خروجه من المعتقل الذي قضى فيه فترة بسيطة، ذهب ليزور جمال سالم في مرضه الأخير في مستشفى المعادي العسكري ـ كان ذلك في عام 1968 ـ فأخذ جمال سالم يبكي على رحيل عبد الحكيم عامر، قائلا لزائره "خلاص آديني حاقابله"، وعندما جامله زائره بالقول إن صحته جيدة، رد قائلاً إنه تأكد من الموت قريبا، عندما زاره عبد الناصر في المنام، مضيفا بحرقة بالغة: "لإنه مستحيل حيزورني، إلا لو واثق إني مش حاعيش، ويمكن يمشي في جنازتي، لكن أنا لا كنت عايزه يزورني ولا يمشي ورايا".
بعد هذا الإستطراد الذي يغري القارئ بفتح ملفات الشقيقين جمال وصلاح سالم، بكل ما فيها من غرابة ومأساوية ومن مهازل أيضاً، يخبرنا عبد الصمد محمد عبد الصمد أن المشير عامر قرر في ظل الأجواء المتوترة التي كانت تحيط به، أن يخوض معركته مع عبد الناصر، "حتى آخرها، وحتى لو كان موقفه ضعيفاً"، قائلا إن عامر كان معتمداً بالأساس على سلاح حرب الأعصاب، الذي يقول إن عبد الحكيم كان يتبعه مع عبد الناصر "منذ أن عاشا سويا في سكن واحد قبل الثورة، خاصة أن عامر كان لديه نوع من التفوق على ناصر، بسبب ندرة أصدقاء ناصر أو انعدامهم، بعكس عامر الذي كان له أصدقاء كثيرون من بينهم شلة كان يلعب البوكر معها، وكان جمال يتذمر من عادة اللعب هذه ويحاول أن يثني عامر عنها، ثم لم يجد بدا من أن يتعلم اللعبة ليلعب معهم"، وأثناء جلسات اللعب تلك، وبنص تعبير عبد الصمد "كان عبد الحكيم يزهو دائما بقوة أعصابه، ويقوم بلعب أدوار بلوفّ للتهويش، ففي أحد الأدوار مثلا يقول أنه سيلعب بخمسين قرش، فيهرب جمال على إعتبار أن ورق عبد الحكيم أقوى منه، فيكشف عبد الحكيم أوراقه وهو ليس مطلوبا منه ذلك ليفاجأ جمال بأن أوراق عامر كانت غير رابحة وسط ضحكات عامر".
واستمراراً في سرد هذا المدخل الغريب لتحليل العلاقة بين ناصر وعامر، يرى عبد الصمد أن تلك الطريقة في المقامرة، استمرت طيلة علاقة الإثنين أثناء سنوات الحكم، "فرغم أن أوراق جمال كانت دائماً هي الأقوى ومكشوفة فقد كانت له الرئاسة، إلا أنه في جميع الأزمات كان عبد الحكيم بسبب قوة أعصابه هو الذي ينتصر، حتى جاءت الأزمة الاخيرة التي يصح فيها قول المقامرين: الحساب على السلم، أي أنها كانت اللعبة الأخيرة والحاسمة". لذلك كما يروي عبد الصمد وضع المشير خطة لمعركة حربية في مواجهة محاولة عبد الناصر لاعتقاله، معتمداً على ما عنده من رجال وأسلحة متوسطة ومدافع صغيرة وقنابل يدوية، ومراهناً على تدخل الجيش إلي جواره، وكان عامر يعتقد أنه حتى لو لم ينتصر، فالمهم أن يكون قد قاوم عبد الناصر لأنه لو لم يفعل فلن يقاومه أحد إلى يوم القيامة، حسب نص تعبير المشير الذي كان يكرره كثيرا للمحيطين به.
كان المشير عامر يعلم أنه يضغط على أعصاب صديقه بتجمهر رجال عامر داخل وخارج بيته، خاصة وأن عبد الناصر كان على وشك الذهاب إلى مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، الذي كان سينعقد يوم 27 أغسطس 1967، ولم يكن عبد الناصر يستطيع الاعتذار عن حضوره، كما أنه أيضا لم يكن يستطيع الذهاب إلى المؤتمر، تاركا عبد الحكيم في مصر قريبا من كرسي الرئاسة، ولذلك راهن المشير رجاله في إحدى جلساته، على أن "جمال سيضعف وسيطلب مقابلته قبل السفر"، وقال عامر إن ذلك لو حدث، فإنه سيذهب من تلقاء نفسه إلى عبد الناصر ويقول له: "سافر وأنا موافق على كل شروطك وأطمئنك"، قائلا إنه سيعتبر نفسه وقتها قد انتصر في معركة الكرامة، التي كانت هدفه الوحيد طبقا لما يرويه عبد الصمد، الذي يؤكد نقلا عن عامر، أن جمال أيضا كان سيسافر وقتها، لأنه كان سيتأكد أن عامر لن يغدر به طالما أعطاه كلمة، وتفسير تلك الثقة في رأي عبد الصمد الذي ينقله عن عامر، تفسير عجيب يليق بالإثنين وبطبيعة علاقتهما، وهو أن "والد عبد الحكيم كان قد جمع الإثنين منذ زمن بعيد، وجعلهما يقسمان على المصحف أمامه أنه لن يخون أحدهما الآخر، وأنهما سيفترقان بمعروف أو يعيشا بمعروف".
وهنا يقول عبد الصمد بأسى إن عامر لم يتوقع خروج جمال على ذلك القسم المقدس، لذلك لم ينتبه إلى خدعته له، حين وافق على أن يتصالحا بزعم أنهما يجب أن يسافرا سويا إلى الخرطوم، ولذلك وافق عبد الحكيم على طلب عبد الناصر بأن يأتي إليه عبد الحكيم في بيته مساء الجمعة 26 أغسطس 1967، ليتناول معه العشاء، وليتباحثا في أعمال مؤتمر الخرطوم قبل سفرهما سوياً، بينما كان ناصر قد أعد "خطة العشاء الأخير" للقبض على عامر فور دخوله بيت عبد الناصر، ليتم في نفس الوقت اعتقال كل من في بيت عامر وحوله، لأن عبد الناصر كان يعلم أن أحداً من رجال المشير، لن يقاوم القوات القادمة إلى البيت، إلا إذا تلقى أمرا مباشرا من عامر، وأنه كان يعلم أيضا أن عامر لن يرفض طلب العشاء، لأنه كان قد زار عبد الناصر في بيته أكثر من مرة، منذ اندلاع الأزمة بينهما، ولم يحدث له شئ، ولذلك فقد كان رفضه طلب العشاء سيظهر ذعره وشكه، وهو أمر لا يمكن أن يتسق مع شخص مشغول طول الوقت بكرامته ومظهره أمام رفيق عمره.
السر الخطير!
طيب، لعلك الآن مستعد لمعرفة السر الخطير الذي وعد عبد الصمد بإذاعته في بداية كتابة لولا خوفه من أن يقوم عمال المطبعة بتسريبه، ولعلك أيضا تخشى أن يخيب عبد الصمد محمد عبد الصمد أملك، حين يتضح لك أن سره لم يكن يستحق كل ذلك الكتمان، لكن الحقيقة أن عبد الصمد، حتى لو لم يكن محقا بإخفاء السر عن عمال المطبعة، لأنهم كانوا سيعرفونه علي أي حال، فالحقيقة أن ما كتبه في نهاية كتابه كان سراً شديد الخطورة بالفعل، وتستحق تفاصيله التدقيق والتحقيق، حين تحكم مصر سلطة مدنية غير مشغولة بإخفاء جرائم الماضي والطرمخة عليها.
ما يكشفه عبد الصمد في نهاية كتابه، أن المشير عامر كتب مذكراته بشكل تفصيلي، راوياً فيها شهادته الكاملة على هزيمة 1967، معتبراً أن تلك المذكرات كانت أهم أسباب صدور قرار التخلص من المشير، وموجهاً أصابع الاتهام في اختفاء تلك المذكرات إلى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي يقول عبد الصمد إنه كان يزور المشير بصفة شبه يومية في عز أزمته مع عبد الناصر، وكان يقول لعائلة المشير: "إذا كان المشير مش حيرجع أنا حابطّل الكتابة، ومش حاكتب حرف واحد"، وذات يوم من أيام شهر أغسطس، وعندما جاء هيكل لزيارة المشير كعادته، وجده منهمكاً في الكتابة، ففاجأه المشير بقوله: "جيت في وقتك ياهيكل، إنت طبعا فاكر كلامك بعدم اطمئنانك لجمال ووعدي لك بالوقوف جانبك، النهارده جه دورك، أنا انتهيت من كتابة مذكراتي عن الحرب، وحكيت السر الخطير اللي بيننا أنا وجمال، لمصلحة مصر والتاريخ، وإذا حصل لي حاجة عايزك توعدني بعد ما تقرأ اللي كتبته وتحفظه، وإذا جه وقت النشر تنشره"، وطلب المشير من هيكل أن يأخذ المذكرات ليقرأها ثم يعيدها، أو حتى يصورها في بيته، ويقول عبد الصمد أن المشير لم يفعل ذلك سذاجة منه، فقد كان حذراً من هيكل طول الوقت، هو وعائلته أيضا، لكنه كان يريد من هيكل أن يبلغ عبد الناصر بتلك المذكرات، لتكون إنذاراً أخيراً لعبد الناصر بأن يستجيب لمطالبه، خاصة أن تلك الأسرار التي حكاها في مذكراته، هي في رأي المشير سبب عدم موافقة عبد الناصر على سفره إلى إيطاليا هو وشمس بدران.
ولكي لا يترك عبد الصمد قارئ مذكراته متحسرا على مصير المذكرات التي ضاعت للأبد بعد أن أخذها هيكل طبقا لروايته، يكشف أنه قرأ تلك المذكرات هو وعدد من رفاق المشير المقربين، ويبدأ في نقل ما جاء فيها من أسباب سياسية وعسكرية للهزيمة من وجهة نظر عامر، الذي يرى أن سبب الهزيمة السياسي الأهم، هو رفض عبد الناصر لأن تقوم مصر بمبادئة إسرائيل بالضربة الأولى، ورفضه لاقتراح المشير بالقيام بعمليات إستفزاز عسكري لإسرائيل، والتي بدأ المشير في تنفيذ بعضها رغم رفض عبد الناصر، لولا أن إسرائيل تنبهت واستنجدت بالرئيس الأمريكي، الذي حذر مصر من البدء بالضرب وتم إبلاغ التحذير للروس، الذين يعتبر المشير أن موقفهم كان في "غاية الغدر والخسة"، ليستدعي عبد الناصر المشير عقب ذلك، ويحذره من التهور، وهنا يستخدم المشير لغة البوكر المفضلة لديه، فيصف ما حدث بأنه كان "كوه" أو "ملعوب بلغة البوكر قامت به أمريكا وروسيا وشربه جمال قابلاً أن يرتمي في أحضان الغدر والخيانة الروسيين".
أما عن الأسباب العسكرية للهزيمة، فيقول المشير في مذكراته إن أهمها كان تدخل جمال في كل صغيرة وكبيرة، وقيامه بفرض رأيه على جميع القادة العسكريين، بحجة أن المعركة العسكرية تخضع للمعركة السياسية، وأنه رفض ما قاله له الضباط بوجوب البدء بالضربة الأولى المصرية، لكي لا يتكرر ما حدث في حرب السويس، فما كان من عبد الناصر إلا أن عنّفهم وهددهم بالعقوبات، فضلا عن رفض عبد الناصر خطة دفاعية وضعها المشير تقضي بإخلاء قطاع غزة، للتمركز في مواقع يمكن بعد بدء الهجوم الإسرائيلي، أن يقوم الجيش المصري انطلاقاً منها، بالهجوم على النقب، لتدور المعركة في أرض إسرائيل، فلا تفيدها طائراتها حتي إذا نجحت الضربة الجوية الأولى لها، وحسب ما يروي عبد الصمد نقلا عن ما قرأه في مذكرات عبد الحكيم عامر، فإن عبد الناصر قال عند رفضه لهذه الخطة "إزاي أنسحب من غزة، والبرستيج بتاعنا، وأقول إيه للعرب؟"، مما جعل عبد الحكيم يتهكم على حكاية برستيج عبد الناصر بعد الهزيمة، متسائلا: "طب هيقول إيه للعرب في مؤتمر الخرطوم"، مضيفا أن عبد الناصر طلب وبإلحاح شديد، تقوية القوات المصرية الموجودة في غزة، لتكون هذه التقوية سبباً في إضعاف الخطوط الدفاعية في سيناء، قائلاً إن طلب الإنسحاب السريع بعد خسائر ضرب الطيران، كان عبد الناصر هو الذي أصدره دون تشاور بل قال: "ده أمر يا عبد الحكيم"، ويروي المشير في مذكراته أنه عندما أمر بسحب الفرقة الرابعة ـ أفضل فرق الجيش حسب تعبيره ـ إلى غرب القناة وهي لا تزال سليمة، غضب عبد الناصر وأمر بإعادتها إلى موقعها، فضربها الطيران الإسرائيلي وحققت خسائر ضخمة في الأرواح.
أين ذهبت التسجيلات؟
لم يكن هذا فقط أخطر ما يرويه عبد الصمد نقلا عن المشير عامر، فهو لا يتحدث فقط عن مذكرات مكتوبة، بل يتحدث عن شرائط تسجيل عليها وقائع اجتماع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، يعترف فيه ناصر باكياً بمسئوليته عن الهزيمة، زاعماً أن عبد الناصر قال له بالنص: "سامحني ياعبد الحكيم أنا غلطت لما ما طاوعتكوش إنت وصدقي ـ يقصد قائد سلاح الطيران صدقي محمود الذي تمت محاكمته بعد ذلك ـ والطيارين وكل اللي كانوا عايزين نضرب الأول"، قبل أن يضيف ناصر أنه سيتحمل المسئولية مع عامر، "وأنهم ماداموا يستقيلون جميعا فلا ضرورة لتوزيع المسئولية علنا".
يزعم عبد الصمد نقلا عن المشير، أن ذلك الإجتماع الخطير، تم تسجيله على شرائط موجودة من أربع نسخ، أحدها كان عند جمال عبد الناصر شخصيا، والثاني عند سكرتيره سامي شرف، والثالث في دار الإذاعة التي كانت ترسل فريقا فنيا لتسجيل وقائع الإجتماعات وحفظها في مكان سري بمعرفة الأجهزة السيادية، أما النسخة الرابعة التي احتفظ بها عامر فيرجح عبد الصمد أن يكون قد تم العثور عليها عند مداهمة بيت المشير وتفتيشه، زاعماً أن عبد الناصر قال لسامي شرف: "إلحق، لِمّ الشرايط لاحسن دي تودينا في داهية"، لأنه كان يعلم خطورة تلك التسجيلات، لكن عبد الصمد لا يقدم تفسيراً مقنعاً لما يمكن أن يجعل عبد الناصر يقبل بتسجيل ذلك الإجتماع الخطير، لكن سياق شهادته يوحي أن ذلك الإجتماع، تم في ظروف كان عبد الناصر فيها في غاية الإرتباك المعنوي والعاطفي، مما جعله يتساهل في الاعتراف بمسئوليته عن الهزيمة.
يروي عبد الصمد أيضاً أن المشير عامر، ولكي يحتاط ويطمئن إلى وصول شهادته للناس بأي شكل، قام بكتابة نسخة أخرى من مذكراته باللغة الإنجليزية، قائلا إنه يفعل ذلك "بهدف الدفاع عن سمعة جيش مصر وقياداته لكي لا تلتصق بهم تهمة الإهمال من أجل تبرئة عبد الناصر"، راوياً أن تلك النسخة الإنجليزية من المذكرات، قام بتهريبها إلى خارج مصر، أحد شباب أسرة المشير ـ وصفه بأنه "فتى من أسرة المشير" ـ ليتم نشرها في بعض الصحف العربية الصادرة في بيروت، وعدد من الصحف العالمية بلغات مختلفة، ولأن هيكل شكك في نسبة تلك المذكرات للمشير، بسبب ركاكة لغتها العربية، يرد عليه عبد الصمد قائلاً إن سبب تلك الركاكة هو رداءة الترجمة عن الأصل الإنجليزي الذي كتب به المشير، الذي كان يجيد الإنجليزية، لكنه ربما استعان بمن يساعده بالكتابة بالإنجليزية، لكن على أية حال تبقى الثغرة الأبرز في رواية عبد الصمد لوقائع تلك الأيام الأخيرة من حياة المشير، هو التناقض بين ما يحكيه عن حذر عامر من غدر ناصر به، لدرجة تجعله يحرص على إيصال روايته للعالم، لكنه في نفس الوقت يذهب إلى بيت عبد الناصر مطمئنا إلى أنه لن يقوم بقتله وإيذائه، وهو تناقض واضح، يحاول عبد الصمد دفعه، بالتأكيد في أكثر من موضع، على أن عامر ظل حتى آخر لحظة يتوقع الاعتقال، لكنه لم يتوقع أبدا القتل.
من المهم أن أقول هنا إنني أرجح الآن وجود مذكرات كتبها المشير عامر بالفعل قبل مقتله، كما يروي عبد الصمد في مذكراته، وسبب ذلك الترجيح، هو أنني شاهدت بنفسي في عام 2011 ورقة كتبها عبد الحكيم عامر بخط يده الذي يمكن التعرف عليه بسهولة في عدد من الوثائق المنشورة في المراجع التي أرخت لفترة الهزيمة وما قبلها، وقد قام المشير عامر في تلك الورقة التي قرأتها، بتوجيه شتائم لاذعة إلى عبد الناصر، لست في حل من ذكرها نصا، لأن ذلك يمكن أن يتسبب في مشكلة للناشر، الذي حصل على مجموعة من الأوراق التي تركها عبد الحكيم عامر لأسرته قبل رحيله، وقد حاول ذلك الناشر بالمناسبة إصدار تلك الأوراق في كتاب بالإتفاق مع أسرة المشير، لكنه تعرض لمضايقات من جهات عليا، كما قال لي حين التقيته على هامش استضافتي له خلال برنامج (عصير الكتب) على قناة دريم، ولم يحن بعد وقت رواية كل ما قاله لي يومها، لأن ذلك من حقه هو، إلا إذا تنازل عن ذلك الحق وطالت فترة صمته، واستمر اخفاؤه لما لديه من أوراق، صارت ملكا للأجيال القادمة، ولم تعد ملكا لأحد بعينه، أيا كانت قرابته بالمشير أو عبد الناصر، أو أيا كان إدعاؤه أنه يقوم بحماية الأمن القومي. بالطبع لست أجزم أن الورقة التي رأيتها، هي بالضرورة جزء من المذكرات التي يشير إليها عبد الصمد في نهاية كتابه، لأن الأسلوب المستخدم في تلك الورقة العجيبة، لم يكن أسلوب مذكرات، بل كان أسلوب شخص يعلم أنه مقدم على مواجهة دامية، فكان يحرق كل مراكبه، ويضرب تحت الحزام، مراهنا بالدخول في مناطق شخصية شائكة جدا، وهو أمر يستحق التحقيق والتدقيق فيه، للتأكد من نسبة تلك الورقة وغيرها إليه، عبر خبراء متخصصين، وهو أمر يفترض بالضرورة أن نعيش أولاً في دولة تحترم تاريخها، وتدرك أن تقدم شعبها في المستقبل، وخروجه من عثرات الحاضر، مرتبط بمعرفته حقائق ما جرى له في الماضي.
جنون حمزة البسيوني!
في ختام مذكراته، وبعد حديثه عن مذكرات المشير المختفية وتسجيلاته المفقودة، يروي عبد الصمد محمد عبد الصمد قصة دخوله السجن، حيث علم فيه متأخراً بمقتل المشير عامر، وللأسف لن يتسع المقام هنا لذكر تفاصيل قصته في السجن، رغم أنه يكتبها بحس ساخر ومرير، ولكن سأمرّ سريعاً على وقائع غريبة وردت في مواضع متفرقة من مذكراته، من بينها مثلا أنه يسند رواية إلى حسن خليل مدير المباحث العسكرية، يقول فيها أن حسن خليل وشمس بدران عرضا على عبد الناصر أن يقوم بتخفيف حكم الإعدام على سيد قطب، ليستبدله بالسجن المؤبد أو العفو مع تحديد الإقامة، ويكسب شعبيا ودوليا من وراء ذلك، لكن عبد الناصر رفض وأصر على إنفاذ حكم الإعدام، وأن ذلك ترافق مع رغبة قوية في التنكيل بسيد قطب، ومصادرة كل كتبه، لدرجة أن فرن تسخين المياه في سجن القلعة كما يروي عبد الصمد نقلاً عن حسن خليل الذي كان معه في السجن، كان يتم إيقاده بأجزاء كتاب (في ظلال القرآن)، الذي تمت مصادرة آلاف النسخ منه، وهي واقعة تحتاج إلى الكثير من التدقيق، ولا أظن أن عبد الصمد قد رواها رغبة منه في مغازلة التيار الديني، لأن الفترة التي نشر فيها مذكراته، كانت قد شهدت نهاية شهر العسل الذي قام لسنوات بين السادات والتيارات الدينية، التي استخدمها السادات لفترة في ضرب الناصريين واليساريين.
يروي عبد الصمد في هذا الجزء من مذكراته، أن جميع الذين تم اعتقالهم عقب الهزيمة من رجال عامر، تعرضوا لمعاملة سيئة جدا، باستثناء شمس بدران الذي كان يلقى معاملة فوق الممتازة، وكذلك مدير السجن الحربي السابق حمزة البسيوني الذي كان بعض حرس السجن يعدون له الجوزة بأنفسهم، حرصاً على أن يكون في أفضل مزاج، وعلى ذكر حمزة البسيوني أشهر جلادي فترة عبد الناصر، يروي عبد الصمد أنه لاحظ عادة غريبة عند حمزة، وهي أنه يداعب القطط الموجودة في السجن، ويحنو عليها ثم يلقيها فجأة بكل عنف على الأرض، وقال أن حمزة ظهرت عليه بوادر جنون، عندما سمع بمحاكمة نائب مدير المخابرت في قضية تعذيب، وانه كان خائفاً لكنه كان يتماسك لكي لا يتم رفع تقارير عنه، وأنه اعترف لرفاق السجن بقيامه بدفن أحياء في الصحراء، لكنه زعم أنهم كانوا جواسيس فقط، واعترف لهم بأنه استخدم المسدس لكي ينتزع إعترافات مصطفى أمين بالتخابر مع الأمريكان، وأن حمزة البسيوني كان يعتبر أن "قيام عبد الناصر بحبسه برغم تعذيبه لقادة الإخوان وإجبارهم على الهتاف بحياة عبد الناصر، هو تخليص لذنوبه تجاه الإخوان"، كما يروي عبد الصمد أيضاً أنه زامل في المعتقل بعض قادة الثورة اليمنية، مثل أحمد النعمان والفريق العمري، الذين جاؤوا إلى عبد الناصر ليشتكوا إليه من رئيسهم السلال الذي كان مدعوما منه، فقام عبد الناصر بإيداعهما سجن القلعة، ليتعرضا هناك لإهانات جعلتهما يترحمان علي أيام الأمام أحمد الذي أطاحت به الثورة اليمنية.
وبرغم أنه لم يكن إلى جوار المشير في أيامه الأخيرة، يجزم عبد الصمد محمد عبد الصمد في مذكراته، أن المشير عامر تعرض للقتل، مستدلاً على ذلك بأسباب كثيرة، منها أن كل الذين تحدثوا عن أن عامر لم ينتحر، تعرضوا للموت في ظروف مريبة، "ومن بينهم عميد طيار وثيق الصلة به، قيل أنه مات بإنهيار عصبي مع أن الطيارين من أقوى الناس أعصاباً"، يستشهد عبد الصمد أيضاً بأن شمس بدران المتهم الأول في قضية المشير، "كان يذهب للمحكمة متأنقا، وكأنه يذهب لحفل ساهر، وأنه كان يعامل جيدا في السجن، قبل أن يُطلق سراحه ويسافر دون قيد أو شرط، يتحدث أيضاً عما وصفه "بالموت الغامض للدكتور أنور المفتي" الذي أعد التقرير الطبي عن موت المشير، ويرى عبد الصمد أخيرا أن النية كانت مبيتة للتخلص من المشير، بدليل أنه في لحظة إعتقاله، كانت قوات البوليس تتحرك في كل مدن وقرى الجمهورية، لتعتقل أكثر من 200 مواطن من أنصاره وهو مايؤكد وجود نية مبيتة لدى عبد الناصر، للتخلص من صداع كان اسمه المشير عبد الحكيم عامر.
ما من شك، أن هذا الجزء الذي لم يعاصر فيه عبد الصمد الأحداث بنفسه، يظل أضعف أجزاء مذكراته، وأنه شطح في بعض أجزائه شطحات لا يمكن فصلها عما تعرض له من اضطهاد بسبب علاقته بالمشير، وما من شك أيضاً، أن مذكرات عبد الصمد محمد عبد الصمد، لا يمكن التعامل معها على أنها تنطق بالحقيقة القاطعة، فهي في النهاية شهادة شخصية تنبع من تحيز الرجل ومحبته لصديقه وبلدياته عبد الحكيم عامر، لكن لا يمكن إنكار أن المذكرات حفلت بالسمين، مثلما حفلت بالغث، وأنها احتوت وقائع تبعث على الدهشة، وأخرى على السخرية، وأنها في كل الأحوال تظل وثيقة سياسية مهمة تستحق التأمل والتحقيق، لأنها تسلط أضواء مهمة، على شخصية رجل خطير إسمه عبد الحكيم عامر، شاءت الظروف أن يلعب دوراً شديد الأهمية في تاريخ مصر الحديث، بسبب صداقته الوثيقة والدرامية مع جمال عبد الناصر، التي لم يدفع ثمنها الإثنان وحدهما، بل دفعت ثمنها الفادح البلاد بأسرها، ولا زالت تدفعه، بل وستظل تدفعه للأسف، طالما بقيت العقلية العسكرية العقيمة، مسيطرة على مقاليد البلاد ومصائر العباد.