06 فبراير 2017
صعود اليمين ظاهرة عالمية
وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، وبدأ في تشكيل فريقه الرئاسي الذي يتضمن مجموعة من العنصريين والمتطرّفين. لكن ترامب ليس ظاهرة شاذة في السياق الأميركي، ولا في السياق العالمي، بل هو جزءٌ من ظاهرةٍ أكبر، هي صعودُ اليمينِ واليمينِ المتطرّف في العالم. تجلى ذلك في بريطانيا في التصويت لإخراجها من الاتحاد الأوروبي، في استفتاء برز فيه حزب الاستقلال وزعيمه نايجل فاراج، حليف ترامب. وفي فرنسا، حقّقَت الجبهة الوطنية تقدُّماً كبيراً في الجولة الأولى من انتخابات 2015. وإن تراجعت في الجولة الثانية، فإنها لا تزال قوية، ولدى قائدتها مارين لوبين فرصة للوصول إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات 2017، وثمّة فرصة أقوى لرئيس الوزراء السابق، فرانسوا فيون، والذي نشر، أخيراً، كتاباً ضد "الشمولية الإسلامية"، ونال إعجاب المتطرّفين.
وفي النمسا أيضاً، كادَ حزبُ الحرية اليميني أن يصل إلى الرئاسة مرتين في عام واحد، وخسر في المرتين بهامش قليل، ولو انتصر لكان أول يمين متطرّف يصل إلى الحكم في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفي ألمانيا، أيضاً تقدمَ حزبُ البديل، على الرغم من حداثة سنّه، حيث تمكّن على المستوى الاتحادي من التفوق على الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه أنجيلا ميركل. حزب البديل ورئيسته، فراوكه بيتري، من المعادين للإسلام، ولم يكن غريباً أن تسعى حركة أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب (بيغيدا) أن تتحالف مع الحزب. من اللافت أيضاً أن ألمانيا شهِدت مئات الهجمات على مراكزِ إيواء اللاجئين والمهاجرين بلغت معدل ثلاث هجمات يومياً، حسب الإحصاءات الرسمية، وهي نسبة عالية، ونادراً ما يتم تسليط الضوء عليها للأسف.
وليست هذه هي الدول الوحيدة التي شهدت تقدماً وتنمراً لأحزابٍ ومجموعاتٍ يمينية ومتطرفة، بل يمكن رصد الظاهرة نفسها في بلغاريا وفنلندا والهند، وحتى في سويسرا التي يُنظر إليها إحدى أكثر الدول تسامحاً. وفي أستراليا التي شهدت إنشاء حزب معادٍ لهجرة المسلمين في
2015، وحضر تدشين الحزب غريت ويلدرز، السياسي الهولندي المتطرّف والمؤيد لترامب الذي نال تأييد المتطرفين والعنصريين من كل أصقاع الأرض، ومنهم عديدون من الصهاينة والنازيين الجدد، وحتى من جماعة سينا الهندوسية في الهند، وكذلك مجموعة من الشخصيات العربية التي اشتهرت بالعنصرية وبمعاداتها الديمقراطية. وتجتمع كل هذه التيارات اليمينية وتتحالف، في ظاهرةٍ تستحق الدراسة والتأمل. ولكن، من دون أن ننسى أنها ليست شيئاً واحداً، وأن تطرّفهم متفاوتٌ ومتباينٌ في عدة مجالات، ففي المجال الاقتصادي-الاجتماعي، سيعتبر بعض اليمين الأوروبي يسارياً لو طرح آراءه في أميركا، ومثلاً أغلب اليمين متصهين جداً. لكن، هناك استثناءات، منها حزب جوبيك اليميني في المجر، وهذا يتكرّر في نماذج يمينية أخرى، خصوصاً مع وفرة العنصرية ضد اليهود لدى اليمين.
لكن، ما سببُ هذا الصعود؟ هناك عدة تفسيراتٌ، من أهمها أنّ الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في 2008 لا تزال مؤثرة بعمق في الوجدان السياسي، خصوصاً أن الأزمة كانت، وما ترال، في بعض جوانبها، أسوأ من الكساد الكبير الذي بدأ في 1929، واستمر نحو عشرة أعوام، وهو الكساد الذي وقع في فترة ما بين الحربين التي صعد فيها نجم كل من هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا وكودريانو في رومانيا، وكانت الفترة التي انتعشت فيها الأحلام التوسعية اليابانية، وصعد نجم حركات وشخصيات شعبوية في الساحة السياسية الأميركية، كالأب كوغلين والسيناتور هيوي لونغ الذي اغتيل عام 1935، بالإضافة إلى تزايد أعداد المنتمين للكوكلوكس كلان إلى أعلى مرة في تاريخها، حيث قدر عدد أعضائها، في حينه، بأكثر من أربعة ملايين.
في هذه الظروف، يسهل ويشيع لوم أضعف فئات المجتمعِ، كالمسلمين والمهاجرين واللاجئين، وتبدأ الشخصيات التي تبدو أنها قيادية مقدامة وفجّة بنيل شعبية جماهيرية كبيرة، خصوصاً وهي تدغدغ مشاعر الطبقات المتضرّرة بأحاديث نارية ضد السياسيين التقليديين والمؤسسات التقليدية، وترامب مثال على ذلك، إذ هاجم الكل، وحصل على عداوة عديدين من رموز الفن والإعلام والسياسية، حتى من داخل الحزب الجمهوري نفسه، فبدا للناخب العادي كأنه شخص ثائر ومختلف، وقادر على إحداث التغيير الكبير الذي يئسوا من حصوله، عبر الاستمرار في السياسات المعتادة.
الأزمات الاقتصادية وموجات تدفق اللاجئين وانتشار الذعر من "داعش" قد يشعر الفرد بفقدان
السيطرة على الأمور في بلاده، وبترسّخ أزمة الهوية والإحساس الملحّ لإيجاد أجوبةٍ سهلةٍ سريعةٍ، ولتحقيق شعور وطني غامر بأقصر الطرق. ولذلك، يصبح جذاباً له أن يرى سياسياً ينادي بإغلاق الحدود الفعليّة، وكذلك الحدود المجازية من اتفاقيات والتزامات دولية، مما يرونه تحريراً لبلدانهم وتشريعاتها واقتصادها. ولذلك، ليس غريباً أن يكون الكثير من اليمين ضد الاتحاد الأوروبي، وضد اتفاقية نافتا وضد اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومع الحمائية الاقتصادية.
ليس صعود اليمين الظاهرة الوحيدة في هذا المشهد، إذ ترافقُه أيضاً هزيمة أقصى اليمين أو عدم صعوده في بلاد عديدة، منها كندا التي خسر فيها حزب المحافظين الانتخابات لأول مرة من نحو عقد، شهد سياسات كثيرة متطرّفة، بما فيها مواقف مؤيدة لإسرائيل كانت أشد صقوريةً من مواقف أميركا. كما لم يصعد اليمين، أو حتى تراجع في دول متعدّدة، منها بلجيكا وإيطاليا واسبانيا والبرتغال. وفوق ذلك، نرى صعوداً لليسار متمثلاً في عدة مظاهر، من أبرزها وصول حزب سيريزا اليساريّ إلى الحكم في اليونان واكتساح جيرمي كوربن انتخابات حزب العُمال البريطاني، بعد سنوات طويلة من سيطرة شخصيات عنيفة وخطيرة، مثل توني بلير على الحزب. وحتى في الولايات المتحدة حقّق بيرني ساندرز، وهو الذي يعتبر يسارياً في السياق السياسي الأميركي، نجاحاً كبيراً، وتقول تحليلات إنه كان ليصل إلى الرئاسة لو نافس ترامب بدل هيلاري كلينتون. تدفع الأزمات الصعبة كثيرين لتبني الآراء والتوجهات الساعية إلى تغيير المشهد، وليس للاستمرار فيه، وبأدواته ومؤسساته نفسها، وهو ما يزيد وفرة في الخطاب السياسي كلما تحركنا نحو أقصى اليمين أو اليسار. ويتفق هذا مع تجربة الكساد الكبير، فحين صعدت الفاشية صعدت أيضاً الشيوعية والتيارات اليسارية، فقد كانت فترة الحرب العالمية الأولى وما تلاها فترة الثورات البلشفية والألمانية والاسبانية وغيرها من التوسعات غير المسبوقة لليسار في العالم.
سؤال أخير: هل هذه الأحزاب فاشية؟ هي متفاوتة، ويحمل بعضها توجهاً فاشياً، لكن التعريف الكلاسيكي للفاشية مخصّص لتلك الأحزاب التي لها أيضاً جناح مسلح من قوات غير نظامية، مثل كتيبة الصاعقة في ألمانيا، والقمصان السود في إيطاليا، وقوات غير نظامية مشابهة، كانت موجودة في رومانيا لدى حزب الحرس الحديدي، وربما هذا هو سبب تسمية بعض المختصين أحزاب اليمين المتطرّف اليوم فاشيين أو نازيين جدداً، دلالة على أنهم موجة جديدة وشكل جديد من النبع الأيديولوجي نفسه.
وفي النمسا أيضاً، كادَ حزبُ الحرية اليميني أن يصل إلى الرئاسة مرتين في عام واحد، وخسر في المرتين بهامش قليل، ولو انتصر لكان أول يمين متطرّف يصل إلى الحكم في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفي ألمانيا، أيضاً تقدمَ حزبُ البديل، على الرغم من حداثة سنّه، حيث تمكّن على المستوى الاتحادي من التفوق على الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه أنجيلا ميركل. حزب البديل ورئيسته، فراوكه بيتري، من المعادين للإسلام، ولم يكن غريباً أن تسعى حركة أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب (بيغيدا) أن تتحالف مع الحزب. من اللافت أيضاً أن ألمانيا شهِدت مئات الهجمات على مراكزِ إيواء اللاجئين والمهاجرين بلغت معدل ثلاث هجمات يومياً، حسب الإحصاءات الرسمية، وهي نسبة عالية، ونادراً ما يتم تسليط الضوء عليها للأسف.
وليست هذه هي الدول الوحيدة التي شهدت تقدماً وتنمراً لأحزابٍ ومجموعاتٍ يمينية ومتطرفة، بل يمكن رصد الظاهرة نفسها في بلغاريا وفنلندا والهند، وحتى في سويسرا التي يُنظر إليها إحدى أكثر الدول تسامحاً. وفي أستراليا التي شهدت إنشاء حزب معادٍ لهجرة المسلمين في
لكن، ما سببُ هذا الصعود؟ هناك عدة تفسيراتٌ، من أهمها أنّ الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في 2008 لا تزال مؤثرة بعمق في الوجدان السياسي، خصوصاً أن الأزمة كانت، وما ترال، في بعض جوانبها، أسوأ من الكساد الكبير الذي بدأ في 1929، واستمر نحو عشرة أعوام، وهو الكساد الذي وقع في فترة ما بين الحربين التي صعد فيها نجم كل من هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا وكودريانو في رومانيا، وكانت الفترة التي انتعشت فيها الأحلام التوسعية اليابانية، وصعد نجم حركات وشخصيات شعبوية في الساحة السياسية الأميركية، كالأب كوغلين والسيناتور هيوي لونغ الذي اغتيل عام 1935، بالإضافة إلى تزايد أعداد المنتمين للكوكلوكس كلان إلى أعلى مرة في تاريخها، حيث قدر عدد أعضائها، في حينه، بأكثر من أربعة ملايين.
في هذه الظروف، يسهل ويشيع لوم أضعف فئات المجتمعِ، كالمسلمين والمهاجرين واللاجئين، وتبدأ الشخصيات التي تبدو أنها قيادية مقدامة وفجّة بنيل شعبية جماهيرية كبيرة، خصوصاً وهي تدغدغ مشاعر الطبقات المتضرّرة بأحاديث نارية ضد السياسيين التقليديين والمؤسسات التقليدية، وترامب مثال على ذلك، إذ هاجم الكل، وحصل على عداوة عديدين من رموز الفن والإعلام والسياسية، حتى من داخل الحزب الجمهوري نفسه، فبدا للناخب العادي كأنه شخص ثائر ومختلف، وقادر على إحداث التغيير الكبير الذي يئسوا من حصوله، عبر الاستمرار في السياسات المعتادة.
الأزمات الاقتصادية وموجات تدفق اللاجئين وانتشار الذعر من "داعش" قد يشعر الفرد بفقدان
ليس صعود اليمين الظاهرة الوحيدة في هذا المشهد، إذ ترافقُه أيضاً هزيمة أقصى اليمين أو عدم صعوده في بلاد عديدة، منها كندا التي خسر فيها حزب المحافظين الانتخابات لأول مرة من نحو عقد، شهد سياسات كثيرة متطرّفة، بما فيها مواقف مؤيدة لإسرائيل كانت أشد صقوريةً من مواقف أميركا. كما لم يصعد اليمين، أو حتى تراجع في دول متعدّدة، منها بلجيكا وإيطاليا واسبانيا والبرتغال. وفوق ذلك، نرى صعوداً لليسار متمثلاً في عدة مظاهر، من أبرزها وصول حزب سيريزا اليساريّ إلى الحكم في اليونان واكتساح جيرمي كوربن انتخابات حزب العُمال البريطاني، بعد سنوات طويلة من سيطرة شخصيات عنيفة وخطيرة، مثل توني بلير على الحزب. وحتى في الولايات المتحدة حقّق بيرني ساندرز، وهو الذي يعتبر يسارياً في السياق السياسي الأميركي، نجاحاً كبيراً، وتقول تحليلات إنه كان ليصل إلى الرئاسة لو نافس ترامب بدل هيلاري كلينتون. تدفع الأزمات الصعبة كثيرين لتبني الآراء والتوجهات الساعية إلى تغيير المشهد، وليس للاستمرار فيه، وبأدواته ومؤسساته نفسها، وهو ما يزيد وفرة في الخطاب السياسي كلما تحركنا نحو أقصى اليمين أو اليسار. ويتفق هذا مع تجربة الكساد الكبير، فحين صعدت الفاشية صعدت أيضاً الشيوعية والتيارات اليسارية، فقد كانت فترة الحرب العالمية الأولى وما تلاها فترة الثورات البلشفية والألمانية والاسبانية وغيرها من التوسعات غير المسبوقة لليسار في العالم.
سؤال أخير: هل هذه الأحزاب فاشية؟ هي متفاوتة، ويحمل بعضها توجهاً فاشياً، لكن التعريف الكلاسيكي للفاشية مخصّص لتلك الأحزاب التي لها أيضاً جناح مسلح من قوات غير نظامية، مثل كتيبة الصاعقة في ألمانيا، والقمصان السود في إيطاليا، وقوات غير نظامية مشابهة، كانت موجودة في رومانيا لدى حزب الحرس الحديدي، وربما هذا هو سبب تسمية بعض المختصين أحزاب اليمين المتطرّف اليوم فاشيين أو نازيين جدداً، دلالة على أنهم موجة جديدة وشكل جديد من النبع الأيديولوجي نفسه.