صعود الروبوت .. والفرد أيضاً

13 نوفمبر 2015

روبوت في معرض صناعي في شنغهاي (3 نوفمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تبدو "الروبتة"، بما هي مشاركة الروبوت في الحياة، والعمل في تحولاتها وتأثيراتها الاجتماعية، صعوداً للفرد، على الرغم من صحة ما يقال، من منظور آخر، إنها تهديد للفرد في العمل والفرص. ولكن، ما من شك في أن الفرد يصعد اليوم مستقلاً عن الدولة والمجتمع والشركات، بل متحدياً لها، كما لو أنه الإنسان "السوبر" الذي بشر به نيتشه، أو ببساطة أجمل وأوضح، "الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه، ويعلم نفسه بنفسه، ويداوي نفسه بنفسه". وقد تبدو طرافة مؤلمة أن الإرهاب نفسه يتطور إلى حالة فردية، ولم يعد فقط جماعات منظمة، وهي الظاهرة التي تسمى، اليوم، في دوائر الإعلام والدراسات "الذئب المتوحد"، وقد تكون مثالاً على صعود الفرد والفردية، والحال أن الإرهاب كان دائماً أكثر التقاطاً وإدراكاً لفرص التقنية وتحولاتها، فالجماعات الإرهابية من أكثر، إن لم تكن أكثر، القطاعات توظيفاً للحوسبة والإنترنت والتقنيات الحديثة الفائقة.
يكاد الروبوت، اليوم، يحل مكان مهن وأشخاص كثيرين، إن لم يكن يشارك فيها بنسبة كبيرة غالبة، ويمثل تهديداً للأطباء والمحامين والمعلمين والصحفيين والمصممين والمبرمجين والطيارين والباحثين والمترجمين والممثلين والمخرجين، إضافة إلى الأعمال الأقل مهارة في الأمن والحراسة والمراقبة والتسلية والمجالسة والمساعدة في العمل المنزلي. ويمكن أن نمضي في التخيل الواقعي لمصير وتحولات الجيوش والأجهزة الأمنية الاستخبارية والحروب والصراعات والسينما والنقل وقيادة المركبات والطائرات والقطارات، ما يجعل أفلاماً مثل ماتريكس وروبوت 1 قصة واقعية ممكنة التطبيق.

ولكن الإنسان ينشئ بذلك اليوم موارد وأعمالاً وفرصاً جديدة، ويحسن حياته، ثم يستقل بنفسه، ليجعل من بيته وذاته مجالاً للعمل والتواصل والتأثير والتعلم والمشاركة، وكما كانت التقنية غالباً تعمل لصالح الإنسان، فإن "الروبتة" وبطبيعة الحال "الفردية" ليست بالضرورة أمراً سيئاً، بل تبدو أمراً مفضلاً وملائماً أكثر للطبيعة الإنسانية ونزعة التفرد والخصوصية. كانت الفردية تبدو ضريبة مؤلمة لعصر الصناعة، لكنها تبدو اليوم مطلباً وفضيلة لعصر المعرفة.
لم يعد هذا الحديث توقعاً مستقبلياً، لكنه تطبيقات واقعية تحل في الحياة والعمل، وبعضها أصبح من الماضي الذي تكيفنا معه، ولنتذكّر ما صرنا نفعله ذاتياً بالتعاون مع الحواسيب، من دون تدخل من الموظفين والمؤسسات. الحجز والسفر وإجراءات المطار والمعاملات الحكومية والمصرفية والبيع والشراء والتسويق وخدمة العملاء، ورعاية الأسرة وكبار السن والأطفال وتعليمهم، والاستعلام والبحث والاسترجاع والتخزين والتنظيم، ومتابعة الحالة الصحية ومراقبتها الأطفال وجميع الناس، بل وملاحظة الإعياء ونسبة السكر والحرارة والكحول في أجسامنا، وربما التدخل لمنع أحد من العمل، أو السواقة تحت تأثيره، وحتى الاتصال بالإسعاف والمستشفيات والبوليس.
يمكن التخيل أننا إنْ لم ندخل إلى اليوم الآخر أنه سيكون ذروة ونهاية الروبتة، وأحياناً تبدو هذه التقنية تفسيراً للآية القرآنية "اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً"، أو هو "اليوم الآخر" في النحو الذي يبدو ممكناً كشف الجرائم ومعاقبة المخطئين وتصحيح الأخطاء والكشف عن الكذب والتزوير. والنزاهة والشفافية والكفاءة المطلقة التي ترقى بالإنسان، ثم إطالة العمر والمعالجة الذاتية للأمراض والتلف في الأعضاء، وصولاً إلى الخلود.
ويمكن على هذا الأساس النظر في التحدي القائم، اليوم، في صعود الإرهاب الفردي، والذي ينشئ مخاطر وأفكاراً وربما قوانين وأنظمة جديدة، فقد كان الصراع تاريخياً بين الدول، وكان ينظمه القانون الدولي والمصالح والعلاقات الدولية وموازين القوة والصراع بين الدول، لكنه تحول إلى صراع مع جماعاتٍ لا تنطبق عليها قوانين الدول ومؤسساتها وجيوشها. اختفت الحروب بين الدول، ولكن الصراع، وخصوصاً في الشرق الأوسط، زاد حدة وخطورة. وها نحن ندخل، اليوم، في صراع جديد مع الأفراد، بين الدولة والأفراد. كأن الفرد يتحول إلى كيان مستقل يشبه الدولة أو الجماعة، ولم يعد ثمة مجال سوى بناء تفاهمات وتوازنات جديدة بين الدولة والأفراد، وبين المجتمع والأفراد، وبين الشركات والأفراد، وبين الأفراد بعضهم بعضا.
لست متحمساً للنظر في النصوص الدينية وتفسيرها، وإعادة تفسيرها وفق التطور العلمي والحضاري والاجتماعي، لكن مصطلح "العالمين" في القرآن، بمعنى البشر، يبدو ملفتاً ومغرياً، بالنظر إليه في عصر الحوسبة والروبتة، فالبشر بما هم العالمين، أي جمع عالم، وكأن الفرد عالم قائم بذاته، كان يبدو ذلك غير مفهوم، أو مفهوماً أنه الإنسان الفرد في حدود ما أمكن القارئ أن تزوده المعرفة والتقنية المتاحة، لكن الفرد يبدو اليوم بالفعل عالماً، وربما يكون في مقدروه أن يضع قانونه وسيادته، ويحدد علاقاته مع السلطة والعوالم الأخرى، كما تتحدد العلاقات بين الدول، وقد تنشئ السلطات مع الفرد بما هو كذلك اتفاقيات ومعاهدات، ويتلاقى الأفراد مع بعضهم، أو مع الدول والهيئات والمنظمات، بما هو كل واحد منهم سلطة مستقلة بمواردها وقوانينها وسيادتها، ويتعاملون مع بعضهم، كما الدول والهيئات. ولكن، وعلى نحو عملي واضح، فإن المواطنة تمضي نحو تعريف جديد، يغير جوهرياً في دور السلطة وعلاقتها بمواطنيها، ويمنح للجغرافيا معنى جديداً، وإن شاء أحد أن يردّ على هذه المقولة بحالة البشر الذين تقتلهم البراميل المتفجرة والطائرات والصواريخ القادمة من حيث لا يعلمون، أو الذين يرزحون تحت الاحتلال، فإنها مقولة، على صحتها ووجعها، يمكن الردّ عليها بتجاور التقدم التقني والمعرفي القائم مع البداءة التي لم تغادر بعد مرحلة الإنسان الأول.

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"