يؤكّد "غروب" (2018) للمجري لازلو نِمش (1977)، مُجدّدًا، على مدى تمكُّن مخرجه وأصالته، بعد تجلّي موهبته في أول فيلم روائي طويل له بعنوان "ابن شاوول" (2015)، الفائز بـ"الجائزة الكبرى" وجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)"، في الدورة اـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، وجوائز مختلفة، أبرزها "أوسكار" الهوليوودية و"بافتا" البريطانية في فئة أفضل فيلم أجنبي.
لم يكن "ابن شاوول" فيلمًا عابرًا لافتًا للانتباه إلى اسم مُخرجه القادم من سينما مجرية عريقة قدَّمت، ولا تزال تُقدِّم، عبر مدارسها ومخرجيها الكبار، أشياء كثيرة للسينما في تاريخها. نَسَب البعض نجاح الفيلم إلى تناوله المحرقة ومعسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية بشكلٍ جديد ومُختلف. لكن الأمر ليس كذلك طبعًا، خاصة مع بروز الموهبة الفريدة لنِمش في توظيف التقنيات السينمائية بنمط حداثيّ، ما جعله يقفز بفيلمه قفزة جريئة للغاية باتجاه الجديد والمُغاير، فنيًا وجماليًا.
في "غروب"، أكّد لازلو نِمش ـ لمحبّي فيلمه السابق وللمراهنين على موهبته وللمتحفّظين على أسلوبه ونهجه الإخراجيين الغامضين أو المُفتعلين (بحسب هؤلاء) ـ على أنه مُخرج شديد الأصالة لا يمضي في طريقه عشوائيًا، وعلى أنه يعرف جيدًا ما يُريده، ويُدرك تمامًا كيفية الوصول إليه ووسائل وصوله. لذا، لم يتردّد عن الاستعانة بالأسلوب نفسه، حافرًا بَصْمته في إخراج "غروب" وتصويره، وهو فيلم تاريخي، إن جاز التعبير. ربما يرى البعض أن الأسلوب يتعارض وطبيعة الحبكة والقصّة والأحداث التاريخية وبناء الشخصيات. لكن التنبّه إلى تلك المنهجية الصارمة التي يتّبعها نِمش في إخراج أفلامه، والتي لم يحد عنها حتى الآن، يُبيّن مراده. عندها، سيختلف التعاطي مع الفيلم واستيعابه وتقبّله، بفضل أسلوبه.
ليس "غروب" فيلمًا تاريخيًا، أو بالأحرى ليس فيلمًا تاريخيًا عاديًا، بل طريقة جديدة لسرد ما هو تاريخي، ولبَثّ روح جديدة تنظر إلى التاريخ وتتناوله بطريقة إبداعية مُختلفة ومُعاصرة. فالنهج شديد الخصوصية في الفيلمين يرتكز أساسًا على الفرد، وعلى العناء والشقاء الفرديين كرمز أو مثال. وهذا في مقابل الجموع أو الطبقات أو الشعب. إنه اصطفاء الخاص من العام. وأكثر من ذلك: قراءة الماضي في ضوء الحاضر، واستشراف المستقبل عبر الحاضر الخارج من رحم الماضي. هنا تكمن أهمية الماضي وقراءته في الفيلم، فلازلو يريد للمُشاهدين استكشاف الماضي، علمًا أن بطلته هي ذوات هؤلاء، بطرحها الأسئلة واستكشاف المجهول واستنباط المعلومات لبلوغ الحقيقة.
اقــرأ أيضاً
يجمع "غروب"، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد" في الدورة اـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، بين تضادات عديدة: جريء ومُربك، صادم ومُرعب، مُحيِّر ومُلغَّز، غامض وقاتم، ساحر وكابوسي. تضادات كامنة في أركان تلك المعزوفة. هناك اقتران دائم بين اللغز والكابوس، والسحر والكابوس، وكلما اقترب العمل ممّا هو فنيّ وجمالي، اقترن أكثر بالمُخيف والمُرعب.
التماسك السردي وسرد قصّة خطية بسيطة وواضحة لم يخطرا على بال كُتَّاب السيناريو (لازلو نِمش والفرنسيان كلارا رُوَييه وماتيو تابونييه، صانع مونتاج "غروب" أيضًا). الأسلوب مُوَظّف ومُسخَّر كليًا لخدمة خيوط الحبكة الفرعية، ولإضفاء مزيد من الغموض على تفاصيلها الغامضة أصلاً، مع الحفاظ ـ طول الوقت ـ على ضبابية القصّة وتركيبة الشخصيات وتعقّد الخيوط والأحداث. أما تقنية التصوير، التي تُميِّز سينما لازلو نِمش بفضل براعة مُصوِّره المجري ماتياش آردْلي، فترتكز على تعقّب الشخصية الرئيسية/ بطلة الفيلم وتَتَبعها ومُلاحقتها بلقطات مُقرّبة في السياق كلّه، إنْ لوجهها أو لظهرها.
في "غروب"، هناك تلصّص على الشابّة العشرينية إيريس (يولي ياكُب)، العائدة إلى مسقط رأسها بودابست، بعد مغادرتها إياه عقب حريق أودى بحياة والديها ومتجرهما العريق في صناعة القبعات. طول الوقت، هناك مواجهة لوجهها الذي يعكس ردود أفعال وتفاعلات وانعكاسات وتأثّر، وهو وجه جامد أساسًا، وذلك من دون رؤية ما يحدث من وجهة نظرها هي، وأيضًا عندما تتّسع عدسة الكاميرا وتكشف ما يحدث في أطراف الـ"كادر". بالإضافة إلى لقطات طويلة جدًا، ذات حضورٍ طاغٍ، وهوامش تُظهر ما يحدث خارج الـ"كادر" ودوره المحوريّ، فيتمّ الاستماع إلى كلامٍ مهموس أو مكتوم أو غير واضح.
هذه تقنية اعتمدها لازلو نِمش، بتوسّع أكبر، في "ابن شاوول"، لكنها في "غروب" متجسدة في طرح سؤال على إيريس: "لماذا عدْتِ؟"، أو لإطلاق تحذير: "اتركي المكان فورًا"، أو "سيغرق المكان في الدماء".
غادرت إيريس بودابست وكان عمرها عامان. أما كيف ولماذا، فلا ذكر لهما ولا تفسير. من "تريستي"، عادت للمطالبة بوظيفة في المتجر القديم لوالديها. هناك، تلتقي أوسكار بْرِيل (فلاد إيفانوف)، المحتفظ بالعلامة التجارية للمتجر (لايتر). يمتلئ الجميع رعبًا بوجودها، وتدرك سريعًا أنه غير مرحَّب بها، خاصة أن شقيقها كالمان قتل كونت ريدي وقطَّعَ أوصاله. لكن، من هو كالمان؟ هي نفسها لم تسمع به سابقًا. فهل هو الفوضوي قائد الأناركيين أو المتمرّدين أو المنشقّين، الذي يُذكر اسمه مرارًا (هو الذي أطلقه على نفسه): شاندور يُكُب (مارتسن تزارنيك)؟ هل هو مُشعِل النار، الذي يريق وزمرته هذه الدماء كلّها؟ ما من إجابة شافية، وهذا يظهر على وجه إيريس نفسها، التي ربما يكون البحث عن شقيقها والعثور عليه نهاية المطاف بالنسبة إليها. لكن هذا ليس غرض المُخرج، والفيلم لا يسعى إليه أبدًا، ولا يُقدِّم أية إجابات. فالأهم هنا رصد ما يحدث لا البحث عن أسباب ما يحدث. فالفيلم مَشَاعر أساسًا، ولا مساحة كبيرة للتفكير المنطقي، والأحداث مترابطة، والنتائج مبنيّة على مُسبّبات.
اقــرأ أيضاً
التاريخ الأوروبي يُشغل بال لازلو نِمش في "غروب"، وتحديدًا تاريخ بلده المجر مطلع القرن الـ20 (1913)، عندما كان إمبراطورية ذات شأن إلى جانب النمسا. القلاقل التي أدخلت أوروبا في إضرابات مريرة أفضت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بتبعاتها كلّها التي لا تزال تُلقي ظلالها على التاريخ الراهن للقارة العجوز. فهل يستشعر نِمش أن أوروبا إزاء لحظة تاريخية فارقة كتلك التي انطلقت شرارتها من بلده في الماضي، وأن كل ما يحدث الآن هو إرهاصات أو بذور في سبيلها إلى إشعال حريق جديد في الداخل الأوروبي مُجدّدًا؟
ربما يكون الحق معه، كلّيًا أو جزئيًا. أو هي مخاوف أو هواجس فنان مُرهف، لكن طرحها والتعبير عنها مَرام كلّ فنان، بصرف النظر عن صوابيتها. للحقيقة، لا سيما التاريخية، وجوه كثيرة تتلوّن تبعًا لوجهات النظر وأشياء أخرى عديدة. مثلاً: هناك من يرى شقيق إيريس مُجرمًا ومُخرّبًا، بينما زمرته ورفاقه يعتبرونه ثوريًا، وما يفعلونه معه يمنح البلد خيرًا ونفعًا. إذًا، ليس الماضي كتلة ثابتة تُقبَل أو تُرفض، بل كائن لا يزال حيًا، ولم يكشف عن جوانبه كلّها بعد.
إنه أمر مُرهق يكاد يدفع إلى الجنون. هذا ما يُلمَس تمامًا في "غروب"، باستثناء لحظاتٍ قليلة تتيح التقاط الأنفاس. لكن، من قال إن حركة التاريخ غير متّسمة بالجنون والتشوّش والاضطراب، وهي تحمل تناقضًا وفوضى ورعبًا؟ هذا ما قدَّمه الفيلم في مَشاهد مُركّزة على بطلته، أو التي اختلط فيها الحابل بالنابل على أطراف الـ"كادر" أو في خلفيته.
"غروب" هو الرحلة الأوديسية الطويلة والمُضنية لإيريس، التي جابت فيها موانئ تاريخية، مُعطيةً لمحة عن أحداث تاريخية غير بعيدة، بطريقة عميقة ومكثّفة وملغّزة ومُحايدة، وهذا هو المهم. أحداث ربما نعيشها الآن، وإن لم ننتبه جيدًا ونع ما يدور حولنا، سيكون الغروب حتميًا. هذه صرخة فنان أوروبي، قرأ التاريخ جيدًا، فاستشرف بفضله مُستقبلاً فوضويًا قاتمًا يُنذر بانهيار مُقبل، فأنجز فيلم صرخة ربما توقظ نيامًا أو غافلين.
في "غروب"، أكّد لازلو نِمش ـ لمحبّي فيلمه السابق وللمراهنين على موهبته وللمتحفّظين على أسلوبه ونهجه الإخراجيين الغامضين أو المُفتعلين (بحسب هؤلاء) ـ على أنه مُخرج شديد الأصالة لا يمضي في طريقه عشوائيًا، وعلى أنه يعرف جيدًا ما يُريده، ويُدرك تمامًا كيفية الوصول إليه ووسائل وصوله. لذا، لم يتردّد عن الاستعانة بالأسلوب نفسه، حافرًا بَصْمته في إخراج "غروب" وتصويره، وهو فيلم تاريخي، إن جاز التعبير. ربما يرى البعض أن الأسلوب يتعارض وطبيعة الحبكة والقصّة والأحداث التاريخية وبناء الشخصيات. لكن التنبّه إلى تلك المنهجية الصارمة التي يتّبعها نِمش في إخراج أفلامه، والتي لم يحد عنها حتى الآن، يُبيّن مراده. عندها، سيختلف التعاطي مع الفيلم واستيعابه وتقبّله، بفضل أسلوبه.
ليس "غروب" فيلمًا تاريخيًا، أو بالأحرى ليس فيلمًا تاريخيًا عاديًا، بل طريقة جديدة لسرد ما هو تاريخي، ولبَثّ روح جديدة تنظر إلى التاريخ وتتناوله بطريقة إبداعية مُختلفة ومُعاصرة. فالنهج شديد الخصوصية في الفيلمين يرتكز أساسًا على الفرد، وعلى العناء والشقاء الفرديين كرمز أو مثال. وهذا في مقابل الجموع أو الطبقات أو الشعب. إنه اصطفاء الخاص من العام. وأكثر من ذلك: قراءة الماضي في ضوء الحاضر، واستشراف المستقبل عبر الحاضر الخارج من رحم الماضي. هنا تكمن أهمية الماضي وقراءته في الفيلم، فلازلو يريد للمُشاهدين استكشاف الماضي، علمًا أن بطلته هي ذوات هؤلاء، بطرحها الأسئلة واستكشاف المجهول واستنباط المعلومات لبلوغ الحقيقة.
يجمع "غروب"، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد" في الدورة اـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، بين تضادات عديدة: جريء ومُربك، صادم ومُرعب، مُحيِّر ومُلغَّز، غامض وقاتم، ساحر وكابوسي. تضادات كامنة في أركان تلك المعزوفة. هناك اقتران دائم بين اللغز والكابوس، والسحر والكابوس، وكلما اقترب العمل ممّا هو فنيّ وجمالي، اقترن أكثر بالمُخيف والمُرعب.
التماسك السردي وسرد قصّة خطية بسيطة وواضحة لم يخطرا على بال كُتَّاب السيناريو (لازلو نِمش والفرنسيان كلارا رُوَييه وماتيو تابونييه، صانع مونتاج "غروب" أيضًا). الأسلوب مُوَظّف ومُسخَّر كليًا لخدمة خيوط الحبكة الفرعية، ولإضفاء مزيد من الغموض على تفاصيلها الغامضة أصلاً، مع الحفاظ ـ طول الوقت ـ على ضبابية القصّة وتركيبة الشخصيات وتعقّد الخيوط والأحداث. أما تقنية التصوير، التي تُميِّز سينما لازلو نِمش بفضل براعة مُصوِّره المجري ماتياش آردْلي، فترتكز على تعقّب الشخصية الرئيسية/ بطلة الفيلم وتَتَبعها ومُلاحقتها بلقطات مُقرّبة في السياق كلّه، إنْ لوجهها أو لظهرها.
في "غروب"، هناك تلصّص على الشابّة العشرينية إيريس (يولي ياكُب)، العائدة إلى مسقط رأسها بودابست، بعد مغادرتها إياه عقب حريق أودى بحياة والديها ومتجرهما العريق في صناعة القبعات. طول الوقت، هناك مواجهة لوجهها الذي يعكس ردود أفعال وتفاعلات وانعكاسات وتأثّر، وهو وجه جامد أساسًا، وذلك من دون رؤية ما يحدث من وجهة نظرها هي، وأيضًا عندما تتّسع عدسة الكاميرا وتكشف ما يحدث في أطراف الـ"كادر". بالإضافة إلى لقطات طويلة جدًا، ذات حضورٍ طاغٍ، وهوامش تُظهر ما يحدث خارج الـ"كادر" ودوره المحوريّ، فيتمّ الاستماع إلى كلامٍ مهموس أو مكتوم أو غير واضح.
هذه تقنية اعتمدها لازلو نِمش، بتوسّع أكبر، في "ابن شاوول"، لكنها في "غروب" متجسدة في طرح سؤال على إيريس: "لماذا عدْتِ؟"، أو لإطلاق تحذير: "اتركي المكان فورًا"، أو "سيغرق المكان في الدماء".
غادرت إيريس بودابست وكان عمرها عامان. أما كيف ولماذا، فلا ذكر لهما ولا تفسير. من "تريستي"، عادت للمطالبة بوظيفة في المتجر القديم لوالديها. هناك، تلتقي أوسكار بْرِيل (فلاد إيفانوف)، المحتفظ بالعلامة التجارية للمتجر (لايتر). يمتلئ الجميع رعبًا بوجودها، وتدرك سريعًا أنه غير مرحَّب بها، خاصة أن شقيقها كالمان قتل كونت ريدي وقطَّعَ أوصاله. لكن، من هو كالمان؟ هي نفسها لم تسمع به سابقًا. فهل هو الفوضوي قائد الأناركيين أو المتمرّدين أو المنشقّين، الذي يُذكر اسمه مرارًا (هو الذي أطلقه على نفسه): شاندور يُكُب (مارتسن تزارنيك)؟ هل هو مُشعِل النار، الذي يريق وزمرته هذه الدماء كلّها؟ ما من إجابة شافية، وهذا يظهر على وجه إيريس نفسها، التي ربما يكون البحث عن شقيقها والعثور عليه نهاية المطاف بالنسبة إليها. لكن هذا ليس غرض المُخرج، والفيلم لا يسعى إليه أبدًا، ولا يُقدِّم أية إجابات. فالأهم هنا رصد ما يحدث لا البحث عن أسباب ما يحدث. فالفيلم مَشَاعر أساسًا، ولا مساحة كبيرة للتفكير المنطقي، والأحداث مترابطة، والنتائج مبنيّة على مُسبّبات.
التاريخ الأوروبي يُشغل بال لازلو نِمش في "غروب"، وتحديدًا تاريخ بلده المجر مطلع القرن الـ20 (1913)، عندما كان إمبراطورية ذات شأن إلى جانب النمسا. القلاقل التي أدخلت أوروبا في إضرابات مريرة أفضت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بتبعاتها كلّها التي لا تزال تُلقي ظلالها على التاريخ الراهن للقارة العجوز. فهل يستشعر نِمش أن أوروبا إزاء لحظة تاريخية فارقة كتلك التي انطلقت شرارتها من بلده في الماضي، وأن كل ما يحدث الآن هو إرهاصات أو بذور في سبيلها إلى إشعال حريق جديد في الداخل الأوروبي مُجدّدًا؟
ربما يكون الحق معه، كلّيًا أو جزئيًا. أو هي مخاوف أو هواجس فنان مُرهف، لكن طرحها والتعبير عنها مَرام كلّ فنان، بصرف النظر عن صوابيتها. للحقيقة، لا سيما التاريخية، وجوه كثيرة تتلوّن تبعًا لوجهات النظر وأشياء أخرى عديدة. مثلاً: هناك من يرى شقيق إيريس مُجرمًا ومُخرّبًا، بينما زمرته ورفاقه يعتبرونه ثوريًا، وما يفعلونه معه يمنح البلد خيرًا ونفعًا. إذًا، ليس الماضي كتلة ثابتة تُقبَل أو تُرفض، بل كائن لا يزال حيًا، ولم يكشف عن جوانبه كلّها بعد.
إنه أمر مُرهق يكاد يدفع إلى الجنون. هذا ما يُلمَس تمامًا في "غروب"، باستثناء لحظاتٍ قليلة تتيح التقاط الأنفاس. لكن، من قال إن حركة التاريخ غير متّسمة بالجنون والتشوّش والاضطراب، وهي تحمل تناقضًا وفوضى ورعبًا؟ هذا ما قدَّمه الفيلم في مَشاهد مُركّزة على بطلته، أو التي اختلط فيها الحابل بالنابل على أطراف الـ"كادر" أو في خلفيته.
"غروب" هو الرحلة الأوديسية الطويلة والمُضنية لإيريس، التي جابت فيها موانئ تاريخية، مُعطيةً لمحة عن أحداث تاريخية غير بعيدة، بطريقة عميقة ومكثّفة وملغّزة ومُحايدة، وهذا هو المهم. أحداث ربما نعيشها الآن، وإن لم ننتبه جيدًا ونع ما يدور حولنا، سيكون الغروب حتميًا. هذه صرخة فنان أوروبي، قرأ التاريخ جيدًا، فاستشرف بفضله مُستقبلاً فوضويًا قاتمًا يُنذر بانهيار مُقبل، فأنجز فيلم صرخة ربما توقظ نيامًا أو غافلين.