19 ابريل 2021
صديق سورية الباقي
لم يمنعه مرضه العضال من تكريس ما بقي من حياته للدفاع عن عدالة ثورة السوريين وشرعيتها، وللتواصل مع الجهات المعنية بها، داخل فرنسا وخارجها. ولم تحل آلام السرطان والعلاج الكيميائي المضنية دون تفاعله مع أدق تفاصيل الحدث السوري، والكتابة عنها، وحضور كل اجتماع أو نقاش هو موضوعه أو على صلة به. إنه فلاديمير غلاسمان، الفرنسي من أصل بلغاري، الذي عرف سورية وصادق مئات من مواطناتها ومواطنيها، واهتم بشعبها في حاضره البائس وماضيه الغني، وأحس بعذاباته وتعاطف مع مناضليه، وفعل كل ما يتطلبه الضمير الإنساني لمساعدته وشد أزره، قبل الثورة وبعدها، وبلغ من تفاعله معه أن دموع الأسى كانت تنهمر من عينيه، وهو يستمع إلى تفاصيل الظلم النازل بهم.
عندما غادر منصبه الدبلوماسي في دمشق، توقف عن خدمة فرنسا، وتفرّغ لخدمة سورية، بدءاً بتصويب علاقات بلاده وأوروبا مع نظامها الاستبدادي، وتقديم وقائع حراكها الشعبي من أجل الحرية إلى رأيهما العام. صحيح أنه غادر بلادنا بعد اثني عشر عاماً فيها، إلا أنه حملها معه إلى باريس، حيث كرّس لها فكره وعمله، وأبقاها حية بين جوارحه، وزاد من تعلقه بها ودفاعه عنها ما تعرّض له شعبها من إبادة على يد نظامها. في رؤيته للأمور، كان فلاديمير يعتبر حرية السوريات والسوريين ضرورية لحريته هو. بهذه الروح، انخرط في جهد إعلامي وسياسي، رداً على ما ألصقه الأسد بالثورة السورية من تهم كاذبة، أشدها فظاعة الإرهاب، وبيّن دور نظامه في تصنيع الإرهاب وممارسته، وذكّر بجرائمه الكثيرة، ومنها قتل سفير فرنسا في بيروت أواسط السبعينيات، وخاض نقاشات ساخنة مع المدافعين الفرنسيين عن شرعية حاكم دمشق السفاح. بينما كان فلاديمير يشرح ويناقش ويكتب ويخاطب الأوساط الرسمية الفرنسية، لم ينس ملايين الشهداء والمعتقلين واللاجئين والمهجرين السوريين، ولم يُقلع عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية، ومتابعة أخبارهم في دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية ودير الزور والحسكة ودرعا والسويداء، وغيرها من أماكن زارها مراراً وتكراراً، وأحبّها وكره ما تعانيه من ظلم واضطهاد.
أمضى فلاديمير سنواته الأخيرة وهو يصارع سرطانين: الذي كان يفتك بجسده، والاستبداد الأسدي وما أحدثته أكاذيبه من تشويه في وعي قطاع كبير من الرأي العام الفرنسي والأوروبي. ولا مبالغة في القول إنه كرّس للسرطان الأسدي جهوداً أكبر من التي كرّسها لمرضه الذي أذكر أنني سألته، في أول لقاء جمعنا في باريس، عن سبب انتفاخ وجهه، فأجاب باقتضاب: إنه السرطان والعلاج بالكيمياء. حين أبديت تعاطفي وحزني، غيّر موضوع الحديث، وطلب مني شرحاً مفصلاً عما يحدث في سورية، وسألني عن أسماء أراد الاطمئنان على أصحابها.
كان فلاديمير أممياً وإنسانياً قانعاً بقدرة الحرية على الانتصار في سورية، كما سبق لها أن انتصرت في بلدان أخرى، وكان شديد الإعجاب بشجاعة السوريين، وباستعدادهم لمواصلة معركتهم القاسية، وللتضحية في سبيل العدالة والمساواة والكرامة، أهداف ثورتهم. ولم يكن إعجابه بالشعب السوري جديداً، ولطالما أثار استغرابنا، نحن الذين كنا نقول في ساعات يأسنا: صار السوريون شعباً من الأموات، فكان يرفض قولنا، ويذكّرنا بطاقاتهم الإبداعية، ويؤكد أن مجتمعاً لم يتوقف يوماً عن مقاومة الاستبداد، وأنجب أجيالاً من المناضلين، سينجح في إزاحة الاستبداد عن كاهله، في نهاية الأمر.
بعد ميشيل سورا، الفرنسي الآخر الذي قتله نظام الأسد بيد سفاحين، وكان صديقاً لفلسطين وسورية، مناضلاً من أجل حريتهما، وكتب عن الأسدية واحداً من أكثر الكتب كشفاً لبربريتها، وتحليلاً لكوامنه بين كل ما كتبته السوسيولوجيا السياسية المعاصرة، برز فلاديمير غلاسمان جسراً إنسانياً، عبرت عليه الأخوة بين البشر، وتخطّت حدود الثقافات والهويات وموانعها، وذكّرتنا أن للإنسان قضايا هي التي تجعل منه إنساناً وجديراً باسمه.
فلاديمير، أيها الصديق، هذه ليست تلويحة وداع، إنها تأكيد بأنك باق في ذاكرتنا، وأننا لن ننسى الكثير الذي فعلته لأجلنا، من أجل تقريب يوم عودتنا إلى دمشق حرّة، كما أردت لها دائما أن تكون.
عندما غادر منصبه الدبلوماسي في دمشق، توقف عن خدمة فرنسا، وتفرّغ لخدمة سورية، بدءاً بتصويب علاقات بلاده وأوروبا مع نظامها الاستبدادي، وتقديم وقائع حراكها الشعبي من أجل الحرية إلى رأيهما العام. صحيح أنه غادر بلادنا بعد اثني عشر عاماً فيها، إلا أنه حملها معه إلى باريس، حيث كرّس لها فكره وعمله، وأبقاها حية بين جوارحه، وزاد من تعلقه بها ودفاعه عنها ما تعرّض له شعبها من إبادة على يد نظامها. في رؤيته للأمور، كان فلاديمير يعتبر حرية السوريات والسوريين ضرورية لحريته هو. بهذه الروح، انخرط في جهد إعلامي وسياسي، رداً على ما ألصقه الأسد بالثورة السورية من تهم كاذبة، أشدها فظاعة الإرهاب، وبيّن دور نظامه في تصنيع الإرهاب وممارسته، وذكّر بجرائمه الكثيرة، ومنها قتل سفير فرنسا في بيروت أواسط السبعينيات، وخاض نقاشات ساخنة مع المدافعين الفرنسيين عن شرعية حاكم دمشق السفاح. بينما كان فلاديمير يشرح ويناقش ويكتب ويخاطب الأوساط الرسمية الفرنسية، لم ينس ملايين الشهداء والمعتقلين واللاجئين والمهجرين السوريين، ولم يُقلع عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية، ومتابعة أخبارهم في دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية ودير الزور والحسكة ودرعا والسويداء، وغيرها من أماكن زارها مراراً وتكراراً، وأحبّها وكره ما تعانيه من ظلم واضطهاد.
أمضى فلاديمير سنواته الأخيرة وهو يصارع سرطانين: الذي كان يفتك بجسده، والاستبداد الأسدي وما أحدثته أكاذيبه من تشويه في وعي قطاع كبير من الرأي العام الفرنسي والأوروبي. ولا مبالغة في القول إنه كرّس للسرطان الأسدي جهوداً أكبر من التي كرّسها لمرضه الذي أذكر أنني سألته، في أول لقاء جمعنا في باريس، عن سبب انتفاخ وجهه، فأجاب باقتضاب: إنه السرطان والعلاج بالكيمياء. حين أبديت تعاطفي وحزني، غيّر موضوع الحديث، وطلب مني شرحاً مفصلاً عما يحدث في سورية، وسألني عن أسماء أراد الاطمئنان على أصحابها.
كان فلاديمير أممياً وإنسانياً قانعاً بقدرة الحرية على الانتصار في سورية، كما سبق لها أن انتصرت في بلدان أخرى، وكان شديد الإعجاب بشجاعة السوريين، وباستعدادهم لمواصلة معركتهم القاسية، وللتضحية في سبيل العدالة والمساواة والكرامة، أهداف ثورتهم. ولم يكن إعجابه بالشعب السوري جديداً، ولطالما أثار استغرابنا، نحن الذين كنا نقول في ساعات يأسنا: صار السوريون شعباً من الأموات، فكان يرفض قولنا، ويذكّرنا بطاقاتهم الإبداعية، ويؤكد أن مجتمعاً لم يتوقف يوماً عن مقاومة الاستبداد، وأنجب أجيالاً من المناضلين، سينجح في إزاحة الاستبداد عن كاهله، في نهاية الأمر.
بعد ميشيل سورا، الفرنسي الآخر الذي قتله نظام الأسد بيد سفاحين، وكان صديقاً لفلسطين وسورية، مناضلاً من أجل حريتهما، وكتب عن الأسدية واحداً من أكثر الكتب كشفاً لبربريتها، وتحليلاً لكوامنه بين كل ما كتبته السوسيولوجيا السياسية المعاصرة، برز فلاديمير غلاسمان جسراً إنسانياً، عبرت عليه الأخوة بين البشر، وتخطّت حدود الثقافات والهويات وموانعها، وذكّرتنا أن للإنسان قضايا هي التي تجعل منه إنساناً وجديراً باسمه.
فلاديمير، أيها الصديق، هذه ليست تلويحة وداع، إنها تأكيد بأنك باق في ذاكرتنا، وأننا لن ننسى الكثير الذي فعلته لأجلنا، من أجل تقريب يوم عودتنا إلى دمشق حرّة، كما أردت لها دائما أن تكون.